back to top

التحديات الاستراتيجية القادمة من سوريا: كيف يجب أن يتعامل العراق مع الملف السوري بعد الأسد؟

د. علي بشار اغوان/ أستاذ جامعي وباحث في مجال العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية

فرضت معادلة التوازن الجيوسياسي الجديدة في مرحلة ما بعد عملية طوفان الأقصى تحديات جديدة على بيئة الشرق الأوسط بشكل شامل، إذ كان سقوط نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” نهاية عام 2024 صدمة مدوية للكثير من القوى الإقليمية والدولية. وكانت الصدمة الأكبر في تعامل المجتمع الدولي مع هذه الجماعة المدرجة على قوائم الإرهاب في عدة دول حول العالم، إذ حدث انقلاب جذري في موقف المجتمع الدولي تجاه هذه الجماعة، مع الاعتراف بها كممثل لسوريا الجديدة بعد الأسد.

لم يتفاعل العراق سريعاً مع هذه التحولات، بل يمكن القول إنه لم يتفاعل أيضاً مع حقيقة أن لغة العلاقات الدولية هي لغة المصالح القومية العليا والاستثمارات الجيوسياسية، وليست لغة الشعارات أو المواقف الاجتماعية والعقائدية أو المبدئية. هذا التأخر جعل السلوك السياسي الخارجي العراقي يتسم بالارتباك، ابتدأً بحالة من الترقب والحذر، ثم تطوّر إلى انفتاح أمني محدود تمثّل في إرسال رئيس جهاز المخابرات العراقي إلى دمشق، وصولاً إلى لقاءات مشتركة على مستوى وزراء الخارجية عُقدت في برلين، ثم في العقبة، وأخيراً في بغداد بتاريخ 14 آذار/مارس 2025.

وقد استغرق العراق ما يقرب من أربعة أشهر للحصول على ضمانات أولية من الجماعة التي سيطرت على الحكم في سوريا، تُفيد بعدم وجود نوايا تهدد الأمن العراقي أو تعبث باستقراره. في المقابل، تمكنت دول مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا والولايات المتحدة وحتى روسيا من إدراك حقيقة الواقع السوري الجديد خلال ساعات فقط، وبدأت بالتعامل معه وفقاً لهذا الإدراك.

إن هذه الاستجابة السريعة مكّنت تركيا من إحكام قبضتها على جزء كبير من الملف السوري، وأصبحت تمثل البوابة السياسية والأمنية الرئيسية إلى دمشق، في حين وسّعت كل من المملكة العربية السعودية وقطر من مساحة نفوذهما في الملف ذاته. تبِعت ذلك لاحقاً مشاركة فاعلة من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، بل وحتى الصين، في بناء علاقات مباشرة مع الفاعل الجديد في سوريا.

كان التأخير العراقي في فهم الواقع السوري الجديد وبطء الاستجابة له ناتجاً عن إشكالية مركبة داخلية، تتعلق بطبيعة صناعة القرار في السياسة الخارجية، والتي باتت تُحدَّد من قبل شخصيات سياسية وأحزاب وفواعل متعددة، وفقاً لارتباطاتها ومصالحها الخاصة مع القوى الفاعلة في سوريا ومصالحها هناك. وبذلك، انشغل العراق بصراع داخلي لفهم وتنسيق هذه المواقف المتباينة، مما أضعف قدرته على التحرك السريع وأعاقه عن استثمار فرص جيوسياسية مهمة كان يمكن أن تمكّنه من الدخول بفعالية في عمق الملف السوري، كما فعلت العديد من القوى الإقليمية والدولية. وقد فاجأ المجتمع الدولي الجميع مجدداً، وقدم درساً واضحاً يمثل أحد أبرز ملامح التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة بعد “طوفان الأقصى”، وهو أن البراغماتية والذرائعية أصبحتا المنهج الأساس في التعاطي مع المتغيرات، بعيداً عن الاعتبارات الأيديولوجية أو المواقف المبدئية الجامدة.

ترتب على هذه الإشكالية المركبة بعثرة في تصنيف أولويات التعاطي مع الحالة السورية الجديدة، فبينما أبدت الحكومة العراقية في بداية الامر دعمها لنظام دمشق في حقبة الاسد، شهد الموقف الحكومي العراقي تحولاً ملحوظاً تجاه الأزمة السورية، إذ تبنّى خيار عدم التدخل في الشأن السوري الداخلي، رغم تصاعد دعوات عدد من القوى العراقية للقتال في سوريا – تحت ذريعة الدفاع عن المقدسات – في مواجهة زحف “هيئة تحرير الشام” نحو دمشق. ومع تغير المعادلة الميدانية وسقوط نظام الأسد، أعاد العراق تشكيل موقفه استناداً إلى معطيات الواقع الجديد، فبادر إلى إرسال رئيس جهاز المخابرات لبحث ملفات أمنية محددة تتعلق بالتهديدات المحتملة التي فرضتها المرحلة الانتقالية في سوريا. وقد مثّل هذا التحرك بداية لمراجعة العراق لأولوياته وتصحيح مسارات تعاطيه مع الشأن السوري.

على هذا الأساس، بات من الضروري أن يتم وضع منهجية تدرجية واضحة للتعامل مع الواقع السوري الجديد، هذه المنهجية تقوم في جوهرها على أولويات عراقية خالصة، تتولاها الأجهزة التنفيذية المختصة بصناعة واتخاذ القرار في السياسة الخارجية. ويجب أن تُبنى هذه المنهجية بمعزل عن الضغوط الاجتماعية الداخلية أو التماهي مع مواقف القوى الإقليمية الرافضة للتحولات السورية. إن صياغة رؤية سياسية خارجية متماسكة تجاه سوريا تستوجب من العراق الانطلاق من قناعاته ومصالحه الوطنية العليا، بعيداً عن الارتباطات الأيديولوجية، سواء كانت داخلية أو خارجية، لا سيما تلك التي تعود إلى أطراف فقدت الكثير من نفوذها في الساحة السورية، مثل روسيا وإيران.

 

لقراءة المزيد اضغط هنا