مجاهد الطائي / باحث متخصص في الشأن العراقي
بعد أكثر من 20 عاماً على التغيير والانتقال نحو الديمقراطية في العراق عقب احتلال 2003، لا تزال البلاد عالقة في مرحلة التحول، لا سيما فيما يتعلق بالحريات العامة، مثل حرية التعبير والنشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي، التي باتت تتطلب تشريعات جديدة تتناسب مع خصوصية وتعقيد المشهد العراقي، وكذلك مع التطور المتسارع في هذه الوسائط وانتشار استخدامها الواسع في البلاد.
إن النصوص القانونية الحالية التي تنظم حرية النشر والتعبير تعود إلى عقود مضت، إذ استُخدمت في ظل النظام السياسي السابق، لا سيما فيما يتعلق بالمخالفات المنصوص عليها في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969 وتعديلاته، والذي لا يزال ساري المفعول رغم الجدل الدائر حوله. وقد استغل المتنفذون هذه القوانين لقمع الناشطين والمؤثرين وأصحاب الرأي، مستفيدين من الغموض القانوني في العقوبات المتعلقة بـ “السب والقذف والتشهير” أو “إهانة السلطات” أو “الإخلال بالنظام العام والآداب”.
إن مفهوم “وسائط التواصل الاجتماعي” لا يزال غائباً عن النصوص والتشريعات العراقية، والفضاء الرقمي بحاجة لتشريعات برلمانية تنظم عملية النشر وحدوده، علما أن ديمقراطية النظام السياسي الجديد ودستوره تكفَّلا بالحريات، لكنْ بشروط محددة وتوصية بأن تُنظَّم بقانون.
يُعاني العراق من بنية قانونية مترهِّلة وتصدعات اجتماعية خطيرة وقوى سياسية متنافسة ومتناقضة، بعضها تخدمه وتحقق أهدافه قوانين تعود لما يصفونه بـ “حقبة الدكتاتورية”، وقوى أخرى تعمل على استحداث تشريعات جديدة، لكن لا تختلف عن القديمة من حيث النتيجة، فبنود القوانين المقترحة فضفاضة وغير واضحة وتحتمل التأويل والتفسير وعليها جدل واعتراضات وشدٌّ وجذب لم ينته منذ سنوات مع المجتمع المدني.
تتزايد أعداد العراقيين الذين يستخدمون “وسائط التواصل الاجتماعي” كلَّ عام، وقد وصل عدد المستخدمين بداية عام 2024 إلى 31.95 مليون مستخدم، من أصل ما يزيد على 46 مليون عراقي، أي ما يعادل 69.4% من إجمالي عدد السكان، بزيادة تبلغ 7.7 ملايين عن العام الذي سبقه خلال الفترة نفسها.
فالرأي العام يزداد اعتماده على تلك الوسائط بصورة أكبر كلما تفاقمت الأزمات في البلاد، وذلك بحثاً عن حقيقة بعض الملفات التي يجري التغطية عليها من قبل الإعلام التقليدي التابع إمّا للقوى السياسية أو من هم مرتبطون بها وفق سياق سياسي تخادمي تفرضه الاتفاقات السياسية وعُرْف “المحاصصة” السلطوية وتوزيع المنافع المعمول به في البلاد منذ 2003.
لكن، مع تزايد أعداد المستخدمين لوسائط التواصل؛ أصبح الفضاء العمومي أرضاً خصبة للترويج السياسي والنقد والاعتراض ومراقبة السياسات العامة للدولة والقوى السياسية وشعاراتها، ناهيك عن استخدامها كوسائل وأدوات للقيام بجرائم متنوعة، كالابتزاز الإلكتروني ونشر المحظورات والشائعات والخطاب الشعبوي، والتحريض على العنف والطائفية ونشر ما يُعرف بـ “المحتوى الهابط” المُخلّ بالذوق والآداب العامة، وقرصنة ونشر بيانات مؤسسات الدولة التي تعد تهديداً للأمن القومي العراقي.
ينصّ الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (38) منه على تكفّل الدولة بحماية حرية التعبير عن الرأي: (تكفل الدولة، بما لا يخلّ بالنظام العام والآداب: أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. ثانياً: حرية الصحافة والطباعة، والإعلان، والإعلام، والنشر. ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتُنظم بقانون).
إن النصّ على كلمة “تكفل” الواردة في المادة (38) وعدم النصّ على أن حرية التعبير “مُصانة”؛ يجعل النصّ الدستوري مقيداً بحدود النظام العام والآداب التي تجعل التعبير عن الرأي في حالةٍ من المواءَمة مع طبيعة النظام العام والآداب، والتي تُعدّ قيداً على حرية التعبير التي أباحتها المادة نفسها وغيرها من المواد “بكل الوسائل المتاحة”، لكنها محددة بمفهوم مشروعية الوسيلة وطبيعة الرأي، فلا إشكال بماهية الوسيلة ونوعها وطريقة التعبير عن الرأي، رغم الجدل بخصوص قبول فكرة خضوع “وسائط التواصل الاجتماعي” لما تخضع له الصحافة والطباعة والإعلام والإعلان والنشر.
إن المادتين الدستوريتين (38) و(40) المعنيّتين بحرية التعبير ووسائط النشر لم يُشرع لهما قانون، ما يعني استمرار عدم وجود تشريعات خاصة بوسائط التواصل الاجتماعي تُنظّم مستخدميها وتفرض عقوبات على الجرائم الإلكترونية التي تحدث عبرها إلا ما يتعلق بقانون العقوبات الموروث رقم 111 للعام 1969.
يمكن القول ان المؤسسات المعنية فشلت في تنظيم حرية التعبير في وسائط التواصل الاجتماعي وضبطها قانونياً وإدارياً وأمنياً، وعوضتها بممارسات تنفيذية خاضعة للأمزجة السياسية والسلطوية والمصالح الخاصة. وهناك تخادم بين مؤسسات الدولة المعنية وبعض القوى السياسية، في محاولة ضبط الفضاء الرقمي وقمع الأصوات الناقدة.
ومن هذا تتضح الاشكالية الاتية؛ صعوبة تشريع قانون ينظم حرية التعبير في “وسائط التواصل الاجتماعي” يوازن بين واجب الدولة في حفظ الحقوق والحريات من جهة، والأمن والاستقرار من جهة أخرى. وغياب التشريعات الجديدة الخاصة بوسائط التواصل الاجتماعي فسح المجال أمام بعض المغمورين للتجاوز على الذوق العام والقيم والأعراف الاجتماعية، كما خلقت مبرراً للسلطة لممارسة إجراءات قمعية بحقهم ومن دون سابق إنذار. وقانون العقوبات العراقي النافذ لعام 1969 يتعارض في بعض مواده مع مبادئ ومواد الدستور الديمقراطي 2005، ومع غياب التشريعات الجديدة، تكونت مساحة خطرة وفوضوية للمستخدمين، وأعطت مطاطيةً وتوظيفاً للسلطوية والقمع.
ستعتمد الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي لوصف وتحليل الظاهرة موضوع الدراسة، بالإضافة إلى المنهج المقارن وذلك لمقارنة بعض الأحداث والانتهاكات التي وقعت بحق المؤثرين، للحصول على تفسيرات مقنعة ونتائج دقيقة عن علاقة الطرفين بعضهما ببعض في ظل غياب التشريعات الجديدة.
تكمن أهمية الدراسة في تبيان مسعى بعض القوى والشخصيات السياسية العراقية والمتنفذين في الدولة نحو السلطوية، واستخدام قوانين موروثة وإجراءات تسلطية، لقمع أو تقييد أو ترويض حرية الرأي والتعبير في “وسائط التواصل الاجتماعي” ومن أجل مصالح خاصة، وبما يتناقض مع مبادئ الدستور الديمقراطي والمصلحة العامة.