يتميز مفهوم العدالة كما تدركه المجتمعات الشرقية بتأثره بالثقافة ضمن سياقات تاريخية واجتماعية وفكرية. ففي الوقت الذي تبحث المجتمعات الغربية عن قيم الحرية والمساواة بوصفهما الإطار الأساس للعدالة، وتسعى لتمثيل ذلك من خلال النظام القضائي، وإعادة توزيع الثروات والمنافع من خلال سياسات الرفاه الاجتماعي، والعدالة الجنائية، ونحوها.
وفي هذا الفضاء تنتج ادبيات العدالة من خلال مركزية مصلحة الفرد وحقوقه، الا ان العدالة في السياق الشرقي أكثر محاكاة للثقافة التقليدية. فهي تبحث عن حقوق الفرد من خلال ضمان التوازن الاجتماعي والمصلحة العامة، والقيم الدينية التي تؤطر العدالة من خلال الشرع ومبادئ الإنصاف والرحمة، وتحقيق السلام من خلال التقاليد والآداب المتوارثة. وبذا تتداخل العدالة وتحقيقها في بلداننا بالبنى التقليدية المتوارثة رغم ان العدالة في مفهومها الحديث مؤسسات وبنى عقلانية تفترض الفهم المعمق من قبل السلطات والافراد.
إن العراق يمثل نموذجا من هذا التداخل في فهم العدالة، ففي الوقت الذي يبحث النظام السياسي ويفترض وجود عملية متواصلة في التحديث والعصرنة، الا ان هذا البلد وريث أعمق ثقافة عرفتها البشرية. وفي الوقت الذي تبذل جهود حثيثة ليكون النظام السياسي ممثلا حقيقيا للشعب، فإن الازمات والحوادث والتقلبات جعلت من التطلع للعدالة طريقا محفوفا بالتحديات تتطلب توازنا دقيقا بين الأطر القانونية والسياسات العامة والمؤسسات الناشئة والثقافة العامة والاستحقاقات الدولية والارث القانوني والإداري الموجود.
هذا الكتاب هو ثمرة مشروع تابعناه في مركز البيان للدراسات والتخطيط لعامين. ففي العام الأول خلصنا الى ورقة سياسات عامة بحثت في تحديات تحقيق العدالة في النظام السياسي في العراق. وفي العام الثاني وضمن مشروع شديد التفصيل عقدت عشرات الاجتماعات لأصحاب المصلحة ضمن خمسة مواضيع أساسية، استهدفت تحقيق العدالة في مفاصل دقيقة وجزئية في الإطار الإداري والقانوني في مؤسسات الدولة العراقية.
إن اختيار هذه المحاور ينبع من إدراك عميق بأن العدالة لا تتحقق من خلال النظام الأمني او القضائي وحده، بل هي منظومة متكاملة تشمل دور الأحزاب السياسية، وأهمية مجالس المحافظات، وأهمية تشجيع التجارة والاستثمار عبر التحكيم التجاري، وتسهيل الوصول إلى التمويل للمشاريع الصغيرة، إلى جانب حقوق المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، لا سيما في مؤسسات الدولة.
في الدراسة السياساتية الأولى تم تناول واقع الأحزاب السياسية في العراق. فالأحزاب تشكل العمود الفقري للحياة السياسية في أي نظام ديمقراطي، وهي المحرك الرئيسي للتداول السلمي للسلطة. لكن في العراق، تواجه الأحزاب السياسية تحديات معقدة في قانونها التنظيمي وإجراءات التسجيل وفاعلية الدور في النظام السياسي. فهذه الدراسة سلطت الضوء على ضرورة إصلاح النظام الحزبي، وتقديم مقترحات عملية لخلق مناخ سياسي أكثر شفافية وعدالة.
اما الدراسة السياساتية فقد تناولت واقع مجالس المحافظات ودورها في تعزيز العدالة على المستوى المحلي. العراق دولة ذات بنية إدارية معقدة، حيث تتمتع المحافظات بقدر من الحكم المحلي الذي يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتحقيق العدالة على المستوى المحلي في توزيع عادل للثروات وخلق بيئة من المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات ووضع السياسات والاستراتيجيات الخاصة بكل محافظة.
وفي الدراسة السياساتية الثالثة فتم تناول التحكيم التجاري كأداة لتعزيز العدالة الاقتصادية مع التوجه المتزايد نحو الاقتصاد المفتوح وتشجيع الاستثمار الأجنبي، أصبح التحكيم التجاري أداة لا غنى عنها لحل النزاعات التجارية بشكل سريع وفعال. إلا أن البيئة القانونية العراقية لا تزال تعاني من غياب الأطر القانونية المتينة التي تدعم التحكيم التجاري، مما يعرقل العدالة الاقتصادية ويؤدي إلى نفور المستثمرين. هذه الدراسة تسعى إلى تحليل العقبات التي تواجه تطوير التحكيم التجاري في العراق، وتقترح خطوات عملية لإصلاح التشريعات والبنية التحتية القانونية، مع ربط هذا الموضوع بأهمية جذب الاستثمار الدولي لتحقيق التنمية المستدامة.
كما تناولت الدراسة السياساتية الرابعة، قضية الحصول على القروض للمشاريع الصغيرة، والتي تمثل تحديًا كبيرًا أمام تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية. المشاريع الصغيرة هي العمود الفقري لأي اقتصاد مزدهر، وتمثل وسيلة فعالة لتمكين الأفراد وتعزيز الابتكار. ولكن في العراق، يواجه أصحاب هذه المشاريع صعوبات كبيرة في الحصول على التمويل، مما يعمق الفجوة الاقتصادية بين مختلف طبقات المجتمع. تعالج الدراسة هذه القضية من خلال تقديم تحليل دقيق للعوائق الموجودة في النظام المالي العراقي، وتقترح استراتيجيات لتسهيل الوصول إلى التمويل، وهو ما يعد أحد المفاتيح الأساسية لتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
أما الدراسة السياساتية الخامسة والأخيرة، فتتناول واقع المرأة الموظفة في مؤسسات الدولة العراقية. بالرغم من الجهود المبذولة لتعزيز حقوق المرأة في العراق، إلا أن المرأة لا تزال تواجه تحديات كبيرة في بيئة العمل، من ضمنها التمييز وعدم التكافؤ في الفرص. هذه الدراسة تركز على تحليل هذه الظاهرة من خلال دراسة ميدانية للموظفات في وزارتي التعليم العالي والتربية، اللتان تضمان أكبر عدد من النساء الموظفات في الجهاز الإداري في الدولة العراقية. وتقترح هذه الدراسة سياسات وآليات لدعم حقوق المرأة وتحقيق العدالة بين الجنسين وهو امر حيوي لتنمية داخلية مستدامة وتحقيق التزامات العراق تجاه الاتفاقيات الدولية المرتبطة.
ويأمل مركز البيان للدراسات والتخطيط ان تكون هذه الدراسات الخمس تحليلا مفيدا لصانع القرار في تحقيق العدالة في العراق ضمن سياقات وخصوصيات مجتمعية، وثقافية، وقانونية وسياسية.
كما يأمل المركز ان يكون هذا الكتاب مساهمة علمية رصينة تثري الفهم المحلي والدولي لقضايا العدالة في العراق.