back to top
المزيد

    واحة البيان

    التكنولوجيا على مر الازمنة.. الثقافة والحضارة الاسلامية

    كتابة/ رضا محسن الحكيم

    إذا أردنا معالجة مشكلة معينة بحلول واقعية ومنطقية، فعلينا في بادئ الأمر معرفة أسباب ومقدمات تلك المشكلة حتى نتمكن من الدخول في ثغراتها ومعالجتها بالصورة الصحيحة والطريقة المطلوبة. نسمع دائماً ويشاع في أوساطنا، أن الزمان تغير والناس لم يعودوا بمستوى الالتزام الديني والأخلاقي السابق، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية سبباً ميسراً لفسادِهم وخروجهم عن صوابهم الإنساني الذي يمتلك ثنائية (العقل والعاطفة) والذي تميز بهما عن باقي المخلوقات. فيما يلاحظ التعاطف الكبير مع هذه الفكرة خاصة لدى معاصري العقدين وذلك لتغير الزمان وتغير بعض الأعراف مع الزمان، مما أثر ذلك على الموضوع الرئيس.

    بالتأكيد لا يمكن الجزم بأن الفساد والانحلال في هذا الزمان هو أكثر من باقي الأزمنة أو هو أقل من الأزمنة القادمة، فالتجربة التاريخية وسنة الزمان علمتنا أن في كل زمان هناك صالح وطالح كما كان في وقت آدم وأولاده هابيل وقابيل، إلى فترة التي عادوا خصوم الإسلام، أهل البيت (عليهم السلام)، حتى وقتنا الحاضر إذا كثرت فيه الأطراف البارة والعاصية. للمثال، عندما يقال أن الفساد أصبح في هذا الزمان أكثر من غيره، أين القائل، من تاريخ العراق في القرن المنصرم، إذ بدأ انتشار الأفكار الضالة والترويج للانفتاح الفكري والمجتمعي في أوساط البيئة العراقية، مما أدى إلى أن يأخذ مراجع الشيعة آنذاك على عاتقهم، إصدار فتوى واضحة وصريحة لنبذ الاتجاهات الفكرية المنحرفة والوقوف أمامها من دون مجاملة؛ وتأسست عدة حركات تبليغيه وتثقيفية حينها لمواجهتها ومجابهتها، حيث قال الله في محكم كتابه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهذا واجب شرعي لا يمكن التخلي عنه أو التقصير في أدائه. وعندما نرى أبعد من ذلك نلاحظ أن تاريخ العالم وعلى مختلف العصور كان مليئاً بالسلوكيات غير الأخلاقية المنحرفة مواجهاً في المقابل، جبهة الإصلاح والمعرفة، التي تسعى لدحضها وإعلاء صوت الحق.

    فمن الأمور الرئيسية التي يستند إليها البعض، أن انتشار أفكار وسلوكيات (الشذوذ الجنسي) في الوقت الحاضر هي غير مسبوقة وأنها دلالة على الانحطاط الأخلاقي والفكري للبشرية واختفاء محور الصلاح والإحسان أو إخفات وهجه، متناسين بأن أصل السلوكيات الشاذة كانت عند قوم لوط (ع) ولكن ما اختلف هو أن العالم كان قرية صغيرة والآن أصبح قرية أكبر. وإذا لم تكن هذه السلوكيات معروفة ومنتشرة في السابق، فلماذا كان تحريمها من أهم البنود التي نصت عليها الديانات السماوية آنذاك؟ كما وهذا من الطبيعي أن كل شخص لم يعش ولا يرى الأزمنة السابقة يتصور أن ما وقع في زمانه (فساداً كان أو صلاحاً) هو الأكثر شدة على مر العصور، فكثيرٌ من المفكرين السابقين كانوا يكتبون في كتبهم أن، (ظهر الفساد في البر والبحر) وكان علماء آخرين جاءوا بعدهم بمئات السنين يردون على ذلك بارتفاع وتيرة الفساد في زمانهم وعلى هذا المنوال حتى زماننا هذا.

    إلى ذلك، يَعتبِر البعض، أن التكنولوجيا هي العنصر الأساس التي جعلت الفساد الأخلاقي، أسهل وأكثر انتشاراً من السابق مما ميز زماننا هذا عن باقي الأزمنة. والرد على ذلك يكون من خلال عدة نقاط، وهي كالتالي:

    1- لا يمكن نكران أن وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) يسرت عملية الفساد الأخلاقي والمجتمعي إلى حد كبير، ولكن بذات الوقت أصبحت هذه الوسائل باباً لنشر الدين والثقافة والمحاضرات العقائدية والدينية وغيرها من المواد المثمرة، من خلال المقاطع والمنشورات والصفحات المهتمة بهذا الشأن.

    2- هنالك دورٌ كبير للتكنولوجيا في نشر العلم والتعلم بين شتى وأبعد نقاط العالم، حيث كثرت الجامعات التي تمنح الشهادات من خلال الدراسة بطريقة الأونلاين وغيرها من السبل التي تسهل للمتلقي الوصول إلى المعلومة والحصول عليها. يُنقل أن مؤلف كتاب الكافي، الشيخ الكليني (قدس سره) استغرق 20 عاماً لجمع المصادر والعلوم حتى تمكن من تأليفه والذي قال فيه الإمام الحجة (عج): (الكافي، كافٍ لشيعتنا). ولكن الآن وبكل سهولة يمكن لأي شخص الوصول إلى المعلومة والمصادر المرجوة من خلال الشبكة العنكبوتية والمصادر الرقمية وبصرف أقل ما يمكن من الوقت.

    3- وبعد تطور التقنية حتى وصلت إلى صناعة عقل ذكي غير بشري باسم (الذكاء الاصطناعي)، حيث يدعونا ذلك إلى استثماره وزجه بالمصادر الموثوقة لكونه يعتمد في بحوثه على مصادر الشبكة العنكبوتية، ومن المؤسف ملاحظة إغراق الإنترنت بالمصادر غير الصحيحة مما يساعد على تشويه الحقيقة وتحليلها بصورة غير دقيقة في بعض الأحيان. ولكن إذا تم إغراق الإنترنت بالمصادر السليمة فسيقلل ذلك من احتمالية الإغواء والخطأ الموجودة في الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد اعتماد البعض بصورة وثيقة على المعلومات والتحليلات الصادرة منه.

    4- تقول الدراسات، أن التطور العلمي الذي حصل من عام 1980 – 2010 يضاهي التطور العلمي منذ بداية البشرية حتى عام 1980. ومن المستغرب ملاحظة، ان العالم الإسلامي كان مستهلكاً، غير منتجاً للتكنولوجيا؛ وذلك لاعتقاده بأنها آلة لإفساد واندحار المجتمع في حينها، وهذا ما أتاح للغرب أن يغرقها بمصادره وأفكاره ورؤاه، وعندما أصبح استخدامه أمراً واقعاً، جبرنا على استعمال أداة هي صنيعة الغرب ومغروسة بأفكاره. الخطأ الذي يجب ألّا يتكرر في الذكاء الاصطناعي وألّا يُعتبر أداة للفساد وأن يُخلق منه أداة للصلاح والهداية والمعرفة، من خلال السبل المذكورة أعلاه. أي علينا إتقانه والسيطرة عليه لنكون منتجين للعلم ومصدرين للحضارة الإسلامية لا مستهلكين لحضارات وعلوم أخرى. استناداً إلى ذلك، يستنتج أن سهولة الفساد من خلال التكنولوجيا تعود إلى قصور العالم الإسلامي في السيطرة عليها وزج مصادره فيها وبقاءه مستهلكاً للبضاعة والفكر والأسلوب الغربي.

    الصراع القائم في العالم هو صراع حضارات وكلٌ من الحضارات إما تريد أن تفرض حضارتها أو تُثبت فشل غيرها، لكون فرق الحضارة عن الثقافة أنها تركز على الجوانب المادية (الطعام، الملبس، التقنية، الصناعة، الزراعة) عكس الثقافة (العقيدة، القيم، المظاهر) التي تركز على الجانب الروحي. كما وأن الحضارة تستنبط من الثقافة، لكون الثقافة تعطي الأسس الأخلاقية والحضارة تصدر علماً ومادة في إطار متناسق مع تلك المبادئ الأخلاقية. وهذا ما تسعى إليه دول محور الشرق مثل الصين وروسيا وإيران في قبال الثقافة الغربية حيث نلاحظ أن الصين تنتج نموذجاً مغايراً وعابراً للذكاء الاصطناعي الغربي بــ 5.7 مليون دولار وبعدد 200 موظف فقط، موقعة خسارة فادحة على المؤسسات التكنولوجية في العالم لما يقارب 2 تريليون دولار أمريكي.

    إضافة إلى ذلك، من الضروري أن يتم إدخال أساليب التعامل مع الذكاء الاصطناعي وفنونه في المناهج التعليمية منذ المدارس إلى الجامعات وأن يكون منهجاً من مناهج التعليم كما هو الحال للرياضيات والفيزياء وغيرها من الدروس، لخلق جيلاً واعياً وعارفاً بكيفية استخدام العقل الذكي واستثماره خير استثمار من دون أن يكون له تابعاً ومصغي، وألّا يعتمد عليه اعتماداً جذرياً وكاملاً. قال الله في كتابه المبين: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)؛ وانطلاقاً من هذا المبدأ علينا أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتدال. أي لا نصغي لكل ما يصدره منه ونجعله مصدراً للأقاويل. فيما بذات الوقت لا يتم نبذه من الحياة ليطوره الغير. بل يُتقن إتقاناً تاماً ليكون صنيعة أيادي المسلمين، مقننين التعامل والتعاطي معه، حتى يكون العالم الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من منتجي الحضارة بحلتها الجديدة للعالم أجمع. قال رسول الله (ص): (ان المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين) فلذا علينا أن نشحذ الهمم وأن نكرس رؤوس الأموال الكبيرة لتحويل ثقافتنا الإسلامية إلى حضارة منتجة للعالم وأن نصبح في ركب المصدرين لا المستهلكين؛ للسيطرة على من أراد السيطرة علينا من خلال الأدوات الحضارية والفكر الثقافي.

    اقرأ ايضاً