منتظر العطية / باحث في الشأن السياسي العراقي والإقليمي
لعل السؤال الأهم بالنسبة لصانع القرار العراقي في ظل الظروف المشتبكة في شمال شرق سورية حيث تتمركز قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وسؤال، هل سيرضى صانع القرار التركي بهذه الجورة، التي كما يعرفها في أدبيتها الجيوسياسية، أنها تهديد لأمنه القومي. حيث تعتبر قسد التي هي امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي يتمركز في جبال قنديل شمال العراق.
لكن التطورات المفاجئة في الساحة السورية وسقوط نظام الأسد، وسيطرة قوات “هيئة تحرير الشام” على دمشق التي يرأسها أحمد الشرع (الجولاني) سابقاً والمدعوم تركياً بطيعة الحال. جعلت الأتراك يعيدون النظر في هذه المساحة الجغرافية من سورية، ثم دفع “الشرع” للسيطرة على هذه المساحة من منطلق فرض أرادة المنتصر في دمشق، بدعوى توحيد الأراضي السورية ودمج جميع الفصائل المسلحة في جسد الدولة الجديدة.
بينما تتفق قيادة “قسد” مع طرح الإدارة الجديدة في دمشق، إلا أن الواقع على الأرض يقول العكس، فلاشتباكات المحدودة فيما بينهما قد يفضي إلى توسع نطاقها إلى حدود مخيم الهول والروج، والسجون الأخرى التي يحتجز فيها عناصر التنظيم الإجرامي والبالغ عددهم قرابة 56 ألف شخص بينهم ثلاثين ألف طفل، و2500 إلى ثلاثة آلاف أجنبي من 54 دولة.
في شتاء عام 2022 شن تنظيم الدولة الإسلامي(داعش) هجوم على سجن غيوران بمدينة الحسكة شمال شرق سوريا، في محاولة منه لتعزيز صفوف مقاتليه المنهارة. عقب الهزيمة الفادحة التي تكبدها في العراق في خريف عام 2017، وما تلاها من الانتكاسات والخسائر الفادحة في صفوف قيادتها. فعلى خلفية أحداث محافظة الحسكة، عملت القوات العراقية على تشديد الإجراءات على الحدود السورية.
واليوم، وبعد انهيار نظام الأسد في دمشق، والفوضى النسبية التي تلت هذا الانهيار، فأن تنظيم الدولة بعد هذه المتغيرات وضع نصب عينه سواء السجون والمخيمين في منطقة شمال شرق سورية.
مع استمرار الاشتباكات حول سد تشرين في محافظة حلب، مما أسفر عن سقوط مئات الضحايا. وربط حزب العمال الكردستاني انسحابه من سوريا بضمانات سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الجزء الشرقي من البلاد ووقف التهديدات التركية. وفي غضون ذلك، تبنى وزير الخارجية السوري “أسعد حسن الشيباني” الذي كان يتحدث من أنقرة، لهجة تصعيدية، مدعياً أن وجود قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا ” لم يعد مبررًا “. وشدد على ضرورة حل قوات سوريا الديمقراطية.
ورفض وزير الدفاع السوري “مرهف أبو قصرة” صراحة دمج قوات سوريا الديمقراطية ككتلة عسكرية في الجيش، مضيفًا بعد عدة أيام، أن الحكومة منفتحة على المحادثات مع قوات سوريا الديمقراطية بشأن التفكيك، “إذا كان علينا “استخدام القوة، فسنكون مستعدين”.
ولا تزال الفجوة بين الطرفين واسعة، حيث ترفض هيئة تحرير الشام فكرة توحيد قوات سوريا الديمقراطية داخل الجيش، وترفض قوات سوريا الديمقراطية حل نفسها. لكن أي صدام بين تركيا وحلفائها، من جهة، وحزب العمال الكردستاني أو قسد من جهة أخرى، من شأنه أن يقوِّض المفاوضات. كما يمكن أن تقوضها أيضاً تحركات متسرعة من قبل أطراف أخرى، مثل قرار أميركي مفاجئ بسحب القوات الأميركية من الشمال الشرقي أو محاولة دمشق انتزاع السيطرة على أراضٍ من قسد.
تُبرز التطورات الأخيرة في سورية، تصاعد عمليات التنظيم، والتي تشمل كمائن منسقة، واغتيالات مستهدفة، وهجمات على منشآت نفط وغاز ونقاط تفتيش. حيث تشير بعض التقديرات الأمنية والعسكرية إلى وجود حوالي 2,500 من مقاتلي داعش ينشطون ما بين سوريا والعراق، وخصوصاً في المناطق الصحراوية. حيث سُجل في النصف الأول من عام 2024 حوالي 153 هجوماً لداعش، وهو ضعف عدد الهجمات المسجلة خلال العام السابق بأكمله. ثم أن التهديد الحقيقي للتنظيم قد يكون أكبر مما يتم تقديره، نظراً لأن التنظيم لا يعلن ألا عن عدد قليل من هجماته.
كما أصبحت مراكز احتجاز مقاتلي داعش وذويهم في سوريا مشكلة مركبة، وتتطلب حلاً دولياً. وبات مخيم الهول يشهد ارتفاعا ملحوظا في عمليات الاستقطاب والتجنيد، وسط تحذيرات من أن يصبح المخيم قاعدة لعمليات داعش الإرهابية. تتزايد المخاوف على المدى البعيد من أن تخلق مخيمات الاحتجاز والسجون جيلًا جديدًا من المقاتلين الأجانب ويمهد الطريق لعودة داعش في المنطقة. أصبحت المخيمات أكثر عرضة لمحاولات داعش لتحرير المنتسبات من النساء واللاتي يمكن أن يشكلن نواة مثالية لخلايا إرهابية أكبر خارج المخيم.
وعوداً على احتمال نشوب الصراع ما بين قوات سورية الديمقراطية وهيئة تحرير الشام، فأن تنظيم الدولة الإسلامي (داعش) يراقب عن كثب، مسارات الاشتباك وتوسع رقعته بما يتناسب مع رقعة حاضنته الاجتماعية، والجيوب الديموغرافية التي تمترس بها خلاياه. كما يعول التنظيم على استمالة بعض الجماعات المتشددة المتواجد ضمن هيئة تحريم الشام، والتي لا تنسجم بشكل فعلي مع التحولات العقدية والسياسية التي مرت بها الهيئة وكما تحدث عنها الباحثين “كيريل سيمينوف” و”أنتون مارداسوف” في مقالهما المنشور في “مجلس الشؤون الدولية الروسي” حيث يقولان: سيكون من التبسيط تفسير اختيار أحمد الشرع “الطريق الوسطي” فقط على أنه براعة في التكيف مع الواقع السوري أو مهارة في التمويه السياسي. تحول أحمد من “الجولاني” إلى “الشرع” تدريجيا من النهج السلفي الجهادي إلى أيديولوجية أكثر براغماتية، مستفيدًا من الفراغ الأيديولوجي بين الإسلاميين الديمقراطيين والجهاديين السلفيين.
بدأ التحول في 2016 حين أعيد هيكلة “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام”، مبتعدًا عن مفهوم “جهاد النخبة” الذي ركّز على نخبة جهادية منفصلة عن المجتمع. اعتمد بدلاً منه مفهوم “جهاد الأمة” الأكثر مرونة، تركز على القتال المحلي دون تصدير الجهاد عالميا.
أدى هذا التحول إلى فك ارتباط هيئة تحرير الشام رسميًا مع القاعدة في 2017، مما أتاح لها تقديم نفسها كحركة سورية محلية بدلاً من تنظيم جهادي عالمي. وساعد ذلك في جذب فصائل معارضة أكثر اعتدالاً، مع إبرازها كقوة قادرة على الإدارة المحلية. بحلول 2019-2021، شهدت أيديولوجية هيئة تحرير الشام تغييرات إضافية، لعبت تجربة “طالبان” في أفغانستان دورا في هذا التحول.
غير أن الشرع ركّز على إضفاء الشرعية على تنظيمه، وتصويره كجهة فاعلة أساسية لا غنى عنها في مكافحة الخلايا الجهادية المتطرفة والخطيرة على المجتمع الدولي. ساعدت نجاحات الشرع في محاربة بقايا “القاعدة” و”داعش” وقادتهم في إدلب على إجبار تركيا على مراعاة مصالح هيئة تحرير الشام. وقد تعزز ذلك بفشل أنقرة في بناء جيش وطني سوري شمال البلاد قادر على تنفيذ عمليات مستقلة. رغم حفاظ الهيئة على تطبيق محدود للشريعة في إدلب، ما أبعدها عن النموذج الطالباني الصارم ومنحها المرونة في تحسين صورتها كبديل إسلامي معتدل، لكنها تركت تساؤلات حول نواياها طويلة المدى وإمكانية تحولها إلى كيان سياسي أكثر استقرارًا.
ببساطة جزء ليس بالقليل من الفصائل المتحالفة مع الشرع هي بالأصل لا تتجانس مع هذا التحول العقدي، وبالأخص ما سيترتب على “الشرع” في قادم الأيام من تحول أكثر وضحاً تجاه قضايا تعتبر محورية في نظر هذه الفصائل. وليس من المعلوم على وجه الدقة، متى سوف تعلن هذه الفصائل عن انشقاقها والتمرد عليه.
وهنا فأن من أهم السيناريوهات التي يجب أن يضطلع بها صنع القرار العراقي هي أولاً: التنسيق المباشر ما بين قوات “قسد” وقيادة حزب العمال الكردستاني من جانب، والقيادة السياسية الجديدة في دمشق ممثلة “بالشرع” وفريقه، ولكن بعيداً عن الرؤية التركية القائلة بتجريم ومحاربة الـ “PK K ” لأن في ذلك من المخاطر الأمنية على العراق ما هو في غنى عنها الأن.
ثانياً: التنسيق مع قيادة قسد، وقوات التحالف الدولي من أجل جلب جميع المقاتلين سواء من الجنسية العراقية أو الذين قاتلوا في العراق مع عوائلهم وتوزيعهم بين المنشأة السجون العراقية. ولأنهم يمثلون مادة معلوماتية، وبحثية مهمة وأساسية بالنسبة للعاملين في المؤسسات الأمنية.
ثالثاً: وفي حال لم يتحقق اولاً، وثانياً. فالأولى أن يكثف الطياران الحربي العراقي طلعاته ويستعد لتنفيذ مجموعة من المنورات بالتنسيق مع قوات العسكرية الخاصة بالعمليات النوعية، تحسباً لأي تطورات ميدانية قد تنتج عن عدم نجاح الحوار ما بين “قسد” والإدارة المركزية السورية الجديدة.