المزيد

    واحة البيان

    التحليل الاستراتيجي للتغيير السوري: رؤية في الانتقال من الربيع الأحمر إلى الربيع الأخضر

     ا.د.حازم حمد موسى / المحلل الاستراتيجي

    ملخص تنفيذي

    إن الذي ينظر ببصيرة ثاقبة إلى موجات التغيير وما تصحبها من موجات ارتدادية تصاعدية يدرك إن للتغيير ثمن مقاومة انصار الثبات الذين يقاومون وبشدة التغيير، معتبريه مسألة وجود من جانب ، ومن جانب أخر الشركاء في التغيير مختلفي النهج يحاولون كسب مغانم التغيير ، وان جرهم هذا إلى التصارع بنوعيه الخشن –المسلح والناعم التفاوضي –التوافقي، في لحظة ينسون التغيير جاء به الجميع فترجع عجلة التغيير الى المكان انطلاقها الأول أو تتراجع نحوه فيظهر صراع شركاء التغيير، هذا ما تجنبه السوريون لحد الآن ووقع في شباكه الأخرين الذين هبت عليهم رياح الربيع العربي فما زالوا في مقتل ، أو في مأزمة يكادون لا يخرجون من أزمة الحالة الانتقالية ، فتجد حالات لا صحية من العصبية والتعنصر أو على اقل تقدير لا يخفي مقارحه وهو يتحدث ويتبختر ويختال نفسه ، متجاهل شركاء المرحلة ، وهذا الأمر تجنبه صانع القرار السوري الجديد لكن هناك مصاعب “قسد” وغيرهم، فضلاً الاستقطابات والتجاذبات الدولية والإقليمية وكثرة اللاعبين في التغيير والمتلاعبين في نتائجه يحاولون أجراء تغيير التغيير ، وهذا ما يتطلب الفطنة والحنكة في التعامل مع متطلبات المرحلة القادمة وبناء عقد سياسي سوري جديد في المستقبل المنظور.

    المحور الأول: المقاربات الربيعية  

    إن الذي يتتبع حيثيات ““الربيع العربي” الذي هبت رياحه في نهايات 2010 وبدايات  2011 ([1])، وهو يستذكر التغيير في الخريطة العربية يجد مقاربة استكماليه  للتغيير في الخريطة الجيوسياسية السورية بعد أن انهار نظام الأسد في سوريا في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 الذي عدّ أمراً متوقعاً؛ كون سوريا من  دول المنطقة التي عصفت فيها ثورات الربيع العربي التي طالت على ساكنيها فتسببت بموت وتشريد الكثير من قاطنيها، على الرغم من وانقسام اللاعبين الدوليين والإقليميين إلى فريقين الأول يدعم انصار الثبات (بشار حافظ الأسد ) والفريق الثاني يدعم انصار التغيير(المعارضة السورية بكافة تشكيلاتها)  ،  فشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، بات مطلب جماهيري فاختلفت الفصائل المسلحة بفكرها وأداءها وتشكيلها لكنها اتفقت على تغيير النظام([2]).

    وتأصيلاً هناك نرجح مصطلح “الربيع ”  إلى التأصيل الغربي لان العرب لم يتنبؤ بالربيع العربي ،([3]) فتعددت الآراء بشأن أول من أطلق هذا الاسم، إذ يرى البعض أن المصطلح تم استخدامه للمرة الأولى في 15 يناير/كانون الثاني 2011 من قبل صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” الأميركية عقب تعليقها على فرار” بن علي “من تونس ([4]).

    ويرى آخرون أن التسمية تعود للصحفي الفرنسي دومينيك مويزي، الذي أطلق المصطلح للمرة الأولى في 26 يناير/كانون الثاني 2011 عقب اندلاع الثورة المصرية، وهناك رأي ثالث ينسب مصطلح “الربيع العربي” إلى الدبلوماسي المصري م”حمد البرادعي” -الحاصل على جائزة نوبل للسلام- إذ أطلقه في 26 يناير/كانون الثاني 2011 خلال حوار صحفي مع صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، كما أن هناك آراء أخرى نسبت المصطلح إلى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وصحيفة “نيوزويك” الأميركية، لكن الأكثر ترجيح هو اقتباس عن الربيع الأوروبي الذي اطلق على الثورات الأوروبية عام 1848 وتسمى بربيع الأمم وكذلك وربيع الشعوب23″ الذي ظهر مع الثورات الأوروبية في  فبراير 1848 – وأوائل  1849شمل شعوب مثل فرنسا والولايات الألمانية والإمبراطورية النمساوية ومملكة المجر والممالك الإيطالية والدنمارك والأفلاق وبولندا وشعوب بلدان أخرى([5]).

    إن التفكر في ثورات الربيع لا التسليم الأعمى بها، يرشدنا إلى مقاربة  انطلاق الشرارة الأولى في تونس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010([6])، ودفعت رئيسها الراحل “زين العابدين بن علي” إلى الفرار خارج البلاد، وهذا ما فعله الأسد، ثم وصلت مصر بعد خروج المتظاهرين في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وانتهت بتنحي الرئيس المصري “محمد حسني مبارك” ومحاكمته ومن ثم اطلاق صراحه لأسباب إنسانية.

    كما اندلعت شرارة الاحتجاجات في اليمن في 11 فبراير/شباط 2011 مطالبة بتنحي رئيسها آنذاك “على عبد الله صالح”، والذي رضخ لهذا المطلب، وسلم السلطة إلى نائبه” عبد ربه منصور هادي” لكن سرعان ما عاد الى محاربة الحوثيين حتى تمكنوا من قتله([7]).

    وانتقلت في الوقت ذاته إلى ليبيا، واشتعلت شرارتها الأولى في 17 فبراير/شباط 2011 ([8])، وانتهت  بسيطرة الثوار على ليبيا ومقتل الرئيس الليبي في حينها “معمر القذافي، وكذلك التقارب مع حالة الربيع الأحمر اليمني ومقتل الرئيس المقال علي عبدالله صالح بعد أن سلم السلطة إلى نائبه عبد ربه منصور([9])، وتزامنا مع الثورة الليبية اندلعت الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011، إلى نهاية عام  2024 انهار نظام الأسد،  والفارق إن التغيير في سوريا استفاد من تجارب الربيع العربي لبناء نموذجه، فهو جمع الفرقاء وحاكى حركاتهم وارسل رسائل طمأنينة إلى حكومة الأسد ونظم انتقال السلطة من حكومة الأسد إلى حكومة الشرع.

    الأمر الذي افرز هوامش للحركة والحوار لتشكيل جبهة المعارضة السورية التي رسمت انموذجها وخطت خطواتها نحو النهج الجامع لا يستفاد منه القادة لاستقطاب الشعب ، هكذا بدا الانشغال بالفكر والتفكير السوري لفهم وادراك حقيقة الأحداث والوقائع والظواهر الداخلية التجاذبية التوازنية والتنافرية التوائمية بالمسايرة وهو ما يطلق عليه ” تقاربات توازنات القوى وتوازنات التهديد “

    المحور الثاني: التغيير السوري : بين مظلومية الماضي والاستحقاق التاريخي

    ولن ولم تكن مهمة حمل هذا التغيير سهلة على الأطلاق ، بل بدت من اصعب المهام التي تصادف القائمين على صناعة القرار والذين ينؤون بحمل مصير الشعب السوري إلى بر الأمان بحثا عن الاستقرار بعد تبعثر الفكر وتشتت الفعل وأصابهم المهجر ([10]).

    وإن التغيير مليء بالقادة الذين ابدعوا في اظهار هذا الحمل على حقيقتيه لا الاكتفاء بالتعامل معه، وينطبق عليهم وصف مقتبس عن  ويغل “انهم قادة صنعوا انفسهم باعتراك مع الزمن وتشربوا بمعاناته ودرسوا مظاهر التعبير عن الإرادة على أصولها من مصادر النضال والمواجهة فكانت معرفتهم محصلة مخاض شعب في صورة مخاض ذاتي” وهذا ما لم تسجله أربعَةٌ العرب، فتجارب الربيعية تنوعت بين افتراضات ثورية اقتتالية وشعبوية تحشيدية تظاهرية معارضة وانتقالية انتقائية وتحولية ديمقراطية([11]).

    وتبعاً لسطوة الزمن وفضلاً عن تسلط المليشيات المسلحة وما تؤسس من فصائل مضادة للتغيير وأخرى مساندة للتغيير بمختلف مشاربها الأيديولوجية وتركيباتها الاجتماعية وما تؤسسه من عمق في التفكير السياسي والعسكري السوري عموما ، وما شهدته الساحة السورية من تجارب وتجارب نرى إن المعارضة السورية تميزوا عن غيرهم من الفصائل المسلحة بقدرتهم على رصف الخطط المسبقة للوقائع ومطالبها قبل وقوعها، لدرجة بدت الخطط لتغيير النظام ضرباً من الخيال واستباقا للأمور وتجاوزا للكثير من المتغيرات المعطلة لإتمام صياغتها المتوقعة وكأن النظام استعاد عافيته واذا هو وهم النصر وصحوة الموت، فما إن تدافعت الأحداث حتى أصبحت تلك الحركات التغيرية مصوغاً لرصف ردود الأفعال التقويضية لمواقف نظام الأسد ومواقف مناصريه والأمثلة كثيرة سواءً عبر الأحداث التي مروّا بها أو من خلال معطيات وإحداثيات مستمرة حتى ما بعد لحظة الانتهاء الانهياري ولجوء الأسد السوري إلى الدب الروسي([12]).

    ولو حاولنا تحليل فكرة التكيف مع التغيير التي بدت تأخذ عنوان الحق  المنتصر في تقرير المصير  بإطاره الفئوي لنجد “قسد “لها مكانه في هذا الطرح ولكن القضية والمعضلة السياسية انتهت بنهاية “المعقل الثاني للبعث” والأخير دون القدرة على دمج الاختصاصات والمهام في النهج ما قبل التغيير بين العراق وسوريا فالمشكلة متجذرة علاقاتياً،  والغريب الحكومات العراقية المتعاقبة والقوى والسياسية ساندت نظام الأسد وجرمت معارضيه والتغيير فرض التعامل مع معارضيه (حكومة الشرع ) وتلك إشكالية حقيقية تدل على إن للسياسة ضرورات و اباحات لا تقيدها قوانين أو منطلقات أخلاقية ومبدئية فلمصلحة هي المحرك الدافع للعلاقات، فوجود وحدة الظاهرة الأيديولوجية والمقابل المناقض التكتل الموقفي المزمن، مما جعل الساسة العراقيين في حالة تغيير نمط الحوار والطرح في ثنائية العلاقات بفعل التغيير([13]).

    وبقدر ما إثارة تلك الجدلية الموروث التاريخي والمطالبة بالانتقام والثأر للمظلومية  مصوغ لصياغة علاقات مختلة بين الطرفين مما يعقد حالة التفاهم والانسجام السوري-العراقي فصعوبة التحام الجهود وعدم القدرة على صهر الأفكار وتدافع مبادرات وتصريحات تحميل المسؤولية وتعطيل إنجاز متطلبات إدارة التغيير لتطول عملية البناء العلاقاتي بفعل اختلاف أيديولوجيا السياسيتين، هذا ما لا ينطبق على العلاقات المتبادلة بفعل تأثير الفواعل من غير الدول مع لبنان (حزب الله) وفلسطين(حماس) لكنه يتقارب مع العلاقات مع اليمن ( الحوثين)([14]).

    وهذا ما يتطلب إيجاد حالة من التأصيل الفكري لم تعتد عليه الأدبيات السياسية السورية السابقة بحثاً ومناقشة في محاولة منها لتطبيق شامل لام لجميع الأطياف السورية بالاستقطاب والاستجابة لرسم الأنموذج الأدائي الجامع، الأمر الذي يتطلب نضج فكري من محتوى الواقع السوري ليمثل وفقا لهذا المنطق محصلة التحام بين التأصيل الفكري عالي الدقة والرقي الأدائي في التعامل مع الظواهر والوقائع والأحداث والمشاكل التي يعاني منها المجتمع السوري ولم الشتات وتعمير القيم الأخلاقية لما عاناه المجتمع السوري من عنف هيكلي وبنيوي، سواء بفعل الوحدات الدولية الأكثر تأثير أو الإقليمية الأقرب بالتأثير أو دور منقوص لمؤسسات المجتمع الدولي الأممية، وبين الحركة الوجودية التأسيسية التي ينبغي أن تتجسد بنماذج على ارض الواقع بصيغة أهداف تترجمها أفعال منتقاة ومتدفقة وفقاً لتصورات محددة تتجانس استراتيجياً مع الأهداف المحددة ونتيجة هذا الالتحام تتجسد بنماذج صنع الهدف وتحديده، وهذا الأمر ببراعة استراتيجية تولدت هذه المرة عبر الاستحضار العملياتي المسبق حتى باتت إضافة جديدة لاحت بنى المؤسسات التحتية لتصبح الحصيلة وكأنها مرآة ينظر للأحداث من خلالها قبل وبعد وقوعه( بلورة استقراء المستقبل).

    المحور الثالث: التلاقح الفكري والتلازم الفعلي

    والحقيقة التي يمكن البوح بها وإجهارها إن التغيير حصل وكاد لا يكون ممكنا لولا الالتحام والتقارب للمطاليب السورية بمختلف مكوناتها المسلحة وغير المسلحة، ودون ذلك لا يمكن أن تخرج من روح الفئوية الانفرادية حتى لو كانت متمكنة فللسياسة الألوان متعددة الأطياف يتعدد مكوناتها ويصعب صهره واذابته بأنموذج واحد مثل ما قبل التغيير فالإمساك بالقبضة الحديدة كالماسك بيده قبضة من رماد، وهذا ما يراد إدراكه، فضلاً عن الإدارة فن والقيادة فنون فمن عرفها كسب مهارات إدارة البلاد والارتقاء وحصل على القبول الداخلي والرضا الخارجي وحقق استجابة وميل المضاد للتعامل مع الأضداد.

    ومهما يكن من امر، فان الاطمئنان إلى صحة فروض السياسة السورية الجديدة لم يزل بحاجة إلى إثبات معياري لحسن النوايا وسعة العناية والبناء والتنظيم الشامل ليس تبعاً لمراحل الانتقال التغييري التي ستصادف صناع القرار الجدد، وإنما العالم العربي الذي تغيير بكل ما يحمله من أحداث وما يؤسسه من مواقف، بات بأمس الحاجة إلى التقارب والتعاون من اجل اجتياز المرحلة الانتقالية التي طالت في دول الربيع العربي منها تجاوز (20 ) عاماً وهو في حالة انتقال من التسيير والمسايرة إلى التوازن والإدارة([15]).

    الأمر الذي جعل الغالبية من الباحثين والمحللين المعنيين بالشأن السوري معنيين برصف منظومة مؤسساتية تفاعلية بنائية متكاملة تتجاوز حقيقة الارتهان بالمدد الذي يفرزه العقل الجواري  وادلجة تابعية ومقابل المدد وان كان ذلك من مصوغات “توازنات التهديد” و”توزنات الضعف” مما يفضي إلى ظاهرة التحالف الاذعاني من قبل القوى داخلية الفاعلة من غير الدولة مع قوى الدول الجوار لبناء منظومة التوازنات الداخلية، وان حدث سيكون معقد بتعقيد المشهد السياسي العراقي([16]).

    وتأسيساً لما تقدم فان الوضع السوري لم يعد حالة موقف عابرة أو حدث محض صدفة، بل هو توليد لفسيفساء التغيير خاصة وان التغيير اضحى سريع التقادم، مما يتطلب التحكم بعجلته وإبطاء حركة عجلاته لبناء مكونات الدولة التي تدمرت معالمها بفعل الحرب الداخلية –التغييرية التي دامت 2011-2024([17]).

    تنشد معظم الدراسات القيمة، لا سيما التي تتناول مواضيع سوريا وان كانت متبدلة التكوين والأثر والمتفحصة لتفاعلات متداخلة والراصدة لرؤى وأفعال متحركة وتأسيس مداخل مفاهيمية تعين صناع القرار على الأدراك والتحليل عبر إثارة الأسئلة والافتراضات وصولا إلى سبر غور اطاريح فكرية وعملياتية معينة تفصح عن نسق متكامل من البناء.

    ومع انشغال الباحثين والمحلليّن بالشأن السوري تبعاً لخصوصيته أولاً ومن ثم ارتباطه بدول الطوق الجغرافي وكذلك مجموعة الحقائق والوقائع التي شهدتها المنطقة العربية والعالم ، برزت الحاجة الملحة بداءة لإيجاد تفسير ملائم للوضع السوري ومعطياته والرؤى التي عمدت إلى تكوينه لا سيما في ظل حالة الارتباك التي سادت المسعى الداعي إلى تحقيق سوريا الجديدة الأمر الذي دعا إلى التميز بين الفكر والسلوك المعارض والتبدل إلى فكر وسلوك صاحب الشأن السياسي وهذا ما فعله ” الشرع” فمر بمراحل التغيير الفكري والسلوكي بحثاً عن فرصة التغيير واقتناصها ([18]).

    وعلى الرغم من ذلك انتظمت أمام المحللين والباحثين باختلاف مشاربهم وأدوارهم وأساليب وأدوات تحليل علمية أفرزتها عمليات البحث الاكاديمي وتجاربهم الخاصة والعامة تستخدمها في وصف الحالة السورية تدفعهم الرغبة الجامحة والحاجة الماسة لرسم ملامح الدولة الجديدة التي رسمت ملامحها في الربيع الأحمر وتقبل الخصماء والتفكير بالانا الجمعية وتلك عدسة لا بد النظر منها للمجتمع بمكوناته لاسترضائه واستقطابه واستكمال متطلبات الشرعية الدولية اعترافاَ وتعاملاً.

    المحور الرابع : مستقبل التغيير السوري في ضوء استراتيجيات وتكتيكات اللاعبين الإقليمين والدوليين

    واذا كان التتبع لحيثيات وجزئيات مسارات الربيع السوري لربما يسعفنا في تحديد المغزى والفحوى من انقلاب الموازين لصالح الشرع وتدهور السريع للأسد مما غير خارطة اللعبة السياسية في سوريا بفعل اللاعبين الكبار فالجولة قبل الأخيرة بين الروس والأمريكان حسمت لصالح الأتراك على حساب الإيرانيين وتلك مفاجئة اللعب السياسية ، وبدت الساحة السورية بداية لانعكاسات لبنانية وفلسطينية ويمنية وعراقية فالجميع مهتم في نقطة التحول معارض خشن إلى صانع قرار مرن.

    والذي يتابع مجريات التغيير في المنطقة عموماً وسوريا بالأخص لا يمكن له تجاهل اللاعب العربي المحترف ” قطر” في إدارة التغيير([19]) ، الاستراتيجي واللوجستي للفرقاء في الساحة السورية مستمر فعمليات الدعم (الموك)  على مستوى عالٍ على طوال مسيرة التغيير الخشن(المسلح) وكذلك الناعم (دبلوماسية التغيير)، فاللاعب المحوري الأكثر تأثير في مقاربات الفرقاء لتشكيل المرحلة الانتقالية السورية، مع بناء منظومة تقاربات تشكيلية مع للاعب الإقليمي التركي ، إذ عملت إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان، وخاصة بعد عام 2016، على إدراج التغيير السوري على الأجندة العالمية، وجاء المدد القطري لإرجاع سوريا إلى المظلة العربية، مع السير الدبلوماسي الحضر تجنباً للوصم من قبل اللاعبين الإقليميين الخاسرين بدعم طيف واحد بعيه وصبغة دينية معينة، وهنا ظهرت فطنة صانع القرار القطر في طرح الأنموذج الاستقطابي الشامل لجميع مكونات الشعب السوري تحت يافطة سوريا لجميع السوريين([20]).

    ولا جدال في إن سوريا مام منعطف تاريخي يراد له حزم وثبات في بناء الداخل مع السير الحذر في الساحة الإقليمية والدولية تجنباً للاستقطاب أو التنافر التضادي فالساحة فيها تحديات الطوق الجغرافي ،  فالحاجة إلى التطلع للداخل وبناء عقد اجتماعي جديد افضل من الانغماس بمشاكل الجوار الجغرافي التي تعصف وتعج بالمشاكل بفعل تصاعد “توازنات التهديد”([21]).

    ولكي لا ننأى عن أي شطط ، سنعمد إلى رؤية هذا المقوم (سوريا الجديدة) بعين بصيرة ، وكأننا نحاكي الأفق بكل خباياه ، وبقدر ما يحوجه هذا الأسلوب من صعوبة قياس ودقة استحضار ونباهة ربط ، فانه يمثل الأسلوب الأكثر قدرة على لمّ الشتات السوري وإدارته عملياتياً في بودقة واحدة تصهر مفردات البناء والرقي به دفعة واحدة حتى يصبح الهدف أملاً لا مجرد مصلحة فحسب([22]) .

    ولا جل ذلك لا بد من صناعة الأنموذج السوري من مرجعية فلسفية تردف بنائها الهيكلي به ليكون العنوان الاسمى الذين يحتضن فيه الفكر المولود لمعايير قياس الأداء الجمعي فهو وسيلة ضرورية وامتياز يجب حيازته لما يحمل من مؤشرات التوطين المتأصل تجذراً عمق الهوية والانتماء وبناء واستمرارية البحث عن الوسائل الملائمة لصيانة منجز التغيير ومقاومة استلابها من قبل الأخرين الذين ينغمسون لتخريب مغانمه.

    وبناءً لما تقدم يبدو واضحاً التوافق العميق بين فاعليين الداخل السوري على تحقيق السياسية الجديدة بشمولية تشاركية على خلاف ما تظنه بعض الاطاريح بان حالة التوافق وقتية قلقة غير متزنة وتظهر عدم صلاحياتها الأحداث والوقائع الخلافية المسكوت عنها بعد إزاحة الغموض عنها، فالمغانم والمكاسب السورية كان ثمنها لهيب ربيعي احمر على صيف ملتهب كوى في نيرانه صفاح الشعب السوري ، صعب التنازل عنه للرجوع إلى المربع الأول، وكذلك الحذر من تصديع المشروع البنائي للشكل الجديد لسوريا ما بعد التغيير.

    ولعل اهم نتيجة للتغيير السوري تستحق الرصد من خلال النظر بعدسة  المقاربات الربيع العربي هو بروز معطى جديد لّم بمفرداته آليات الاتصال العملياتي وحركيته بين السياسية وفرضياتها المتعددة ، ذلك المعطى هو التغيير البناء بكل ما يحتويه من توليفة حقيقية بين معطين متفاوتيين عمادهما العلاقة الملحوظة والقوية المنتجة لأهداف وغايات مقصودة ، فاذا السياسية الإقليمية والدولية هي المسؤولة عن صناعة التغيير، فتغير السياسية الداخلية (التغيير من الداخل) هو من يصنع صدرة الحكم وسيد التحكم بمساراته ، والأخير تهتدي بطروحاته بالسياسية وعليها مطاوعتها وموائمة متطلبات البيئتين الدولية والإقليمية وما تفرض من نماذج سياسية دولية من الضرورة مراعاتها في بناء المنظومة السياسية السورية الجديدة، فدروب السياسية ليس وحيدة الاتجاه ، غير ان الحكمة والحنكة السياسية تتطلب الموائمة بين العقائد الأيديولوجية لصناع القرار  السوريين والمقاربة بينها لإفراز نظام سياسي رصين البناء والأداء.

    الخلاصة

    لا شكّ في أنّ ترتيبات البيت السياسي السوري بحاجة إلى مزيد من العمل الجاد الحثيث لا سيما بعد تطورات بعد حربي غزة ولبنان، وتقلبات الحرب في اليمن وتطورات ليبيا ومآلات الحرب الأوكرانية، وإشارات تقويض الدور الإيراني (مشروع بالتمدد إلى البحر المتوسّط)، وتقوّيض استراتيجية روسيا بالاحتفاظ بوجود دائم في المياه الدافئة، هذا التغير  سيكون من أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة (إدارة دونالد ترامب) ، كذلك النهج الأوربي الحذر في التعاطي مع الحكومة السورية الجديدة بعد صراع ربيعي احمر استمر ( 14 ) عاماً التي يتضح على ملامحها التغيير الإيديولوجي الجامع في محاولة استقطاب المخاوف الدولية نمطية السياسية الجديدة، وسط تحديات كبيرة معقدة ومتشعبة تواجه الإدارة السياسية الجديدة ، في محاولة  جدية لبناء وتشيد وإعمار  الدولة المتهالكة التي تركها حكم آل الأسد، في نموذج ونهج جامع شامل يضم جميع مكونات الشعب السوري، لتنتقل سوريا من الربيع الأحمر إلى الربيع الأخضر الذي دشنه العلم السوري الجديد.


    ([1]) احمد علي  براهيم :الربيع العربي، رياح التغييـر وعواصفها نحـو أنظمـة خاليـة مـن الاسـتبداد، مجلـة تضـامن، صادر عن المجلس العراقي للسلم والتضامن، عدد 13، نيسان /2012، بغداد، ص 3.

    ([2]) براين مايكل جنكينز، ديناميكيات الحرب الاهلية السورية ،منظور تحليلي ،مؤسسة رند ، تقرير منشور على الرابط: https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE100/PE115/RAND_PE115z1.arabic.pdf

    ([3]) احمــد تهــامي عبــد الحــي :لمــا ا لــم تتنبــو العلــوم الاجتماعيــة بــالثورات العربيــة؟، مجلــة السياســة الدوليــة، العدد016، القاهرة،2011، ص2.

    ([4])Myriam Catusse, Aude Signoles & François Siino, “Revolutions arabas: Un vehement pour les sciences socials?” Revue des monades Musselman’s et de la Mediterranean, no. 138 (2015), p. 13.

    ([5]) الربيع العربي.. عندما أراد الشعب إسقاط النظام، موقع الجزيرة، مقال منشور 24/2/2024 ،على الرابط: https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/2/24

    ([6])  مرشــد القبــي، قــرا ة مــي قــرا ات الثــورة التونســية .المركــ  العربــي للأبحــاث ودراســة السياســات، سلســة تقــيم حالة، الدوحة،2011، .ص ص5-2.

    ([7]) نبيل هيتاري، مرحلة جديدة في حرب اليمن: السياق والتبعات، ٢٨ فبراير ٢٠٢٢، على الرابط: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/mrhlt-jdydt-fy-hrb-alymn-alsyaq-waltbat

    ([8]) منى حسين عبيد، أبعاد تغيير النظام السياسي في ليبيا، مجلة دراسات دولية، بغداد، عدد 51 ، 2012.

    ([9] ) هانى محمد ابراهيم عزب، ثورات الربيع العربي وإهانة رموز الدول ” دراسة سوسيولوجية مقارنة لحالتي ليبيا واليمن ”  ، مجلة البحوث العلمية والاجتماعية ، مج 4، عدد1-2، 2022، ص ص 472 -473.

    ([10]) Heba Gowayed, Political Change and the Fate of Syria’s Refugees Around the World, Arab Center Washington DC,Jan 16, 2025,p1-3

    ([11] ) عبد المجيد السخيري، حركات الربيع العربي تحت مجهر العلوم الاجتماعية: فرضيات واستنتاجات، مجلة عمران ، مج 12، عدد48، ربيع 2024 ، ص 141

    ([12])   Bashar al-Assad, Russia gave asylum to deposed Syrian President al-Assad, Kremlin confirms, 9 Dec 2024, https://www.aljazeera.com/news/2024/12/9/russia-gave-asylum-to-deposed-syrian-president-al-assad-kremlin-confirms

    ([13] ) فارس الخيام،ما مواقف القوى العراقية من أحداث سوريا؟ وما مخاوفها؟، الجزيرة، 7-12-2024 على الرابط: https://www.aljazeera.net/politics/

    ([14]) The Rise of the Non-State Actors in Syria: Regional and Global Perspectives Syria’s New Map and New Actors: Challenges and Opportunities for Israel, Aug. 1, 2016, pp. 13-24

    ([15]) Kristian Alexander, War, peace, or a perpetual state of crisis—three possible paths for the Middle East’s future, November 27, 2024, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/war-peace-crisis-middle-east/

    ([16])  Omar Dhabian, The Iraqi Stance on Events in Syria: Between Legitimate Fears and Sectarian RhetoricJan 14, 2025. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/iraqi-stance-events-syria-between-legitimate-fears-and-sectarian-rhetoric

    ([17])Abdul-Rahman Hamidé, Uprising in Syria, 2011– inSyrian Civil War inTimelines of eventsDec 19, 2024, https://www.britannica.com/event/Syrian-Civil-War/Uprising-in-Syria-2011

    ([18]) Zaid Al-Ali, Syria’s Troubling New Order Despite its inclusive rhetoric, the new Islamist government is already setting parameters for how the country will be governed., January 13, 2025, https://foreignpolicy.com/2025/01/13/syria-hts-sharaa-government-transition-constitution-minorities-rights/

    ([19]) Amy Mackinnon, Your Syria Questions, Answered, What Bashar al-Assad’s fall means for Syria, the Middle East, and beyond. December 12, 2024, https://foreignpolicy.com/2024/12/12/syria-collapse-assad-taiwan-china/

    ([20]) Andrey Kortunov, The Regime Change in Syria and the Responsibility of Great Powers

    December 20, 2024, https://russiancouncil.ru/en/analytics-and-comments/analytics/the-regime-change-in-syria-and-the-responsibility-of-great-powers/

    ([21]) Mohammed A. Salih, ost-Assad Syria: Challenges, Opportunities, and the US Role in Shaping its Future,24 January2024. https://www.fpri.org/article/2025/01/post-assad-syria-challenges-opportunities-and-the-us-role-in-shaping-its-future/

    ([22]) Philip Loft , Claire Mills , Syria after Assad:Consequences and next steps in 2024/25, European Space Agency, The Middle East as seen by Envisat/CC BY-SA 3.0, 19 December 2024.

    اقرأ ايضاً