محمد تحسين كوك قايا / باحث في الشأن الامني والتنظيمات الارهابية.
في 9 نيسان 2003، كنت في السادسة عشرة من عمري، أتابع مشهد سقوط نظام البعث وملاحقة صدام حسين وأركان حكمه، مع الانهيار الكامل لرموز سلطته. عندما خرجنا إلى الأزقة، كانت المشاهد تعكس واقعًا مختلفًا؛ إذ كنا نرى الجنود يفرّون مذعورين وينزعون زيهم العسكري لتجنب الوقوع في أيدي أولئك الذين كانوا يتطلعون للانتقام من حكم صدام. كنا ندرك، كما كانوا هم يدركون، أن أغلب هؤلاء الجنود لم يكونوا سوى ضحايا للخدمة الإلزامية، مجبرين على المشاركة في جيش لا يمثلهم ولا يمت بصلة إلى إرادتهم. لم تكن لديهم علاقة مباشرة بجرائم النظام أو استبداده الديكتاتوري الذي فرض نفسه بالقوة والقمع.
كانت الأحداث الاخيرة في سوريا تحمل في طياتها صدى لماضٍ قريب، وكأن المشهد يعيد نفسه. كنا أشاهد مرة أخرى التماثيل وهي تتحطم، والرموز الدكتاتورية تنهار تحت وطأة التغيير.، أُسدل الستار على حكم البعث الذي دام 61 عامًا، والذي استند إلى القوة والخوف والدعم الخارجي لفرض سيطرته على الشعب السوري. في 27 تشرين الثاني 2024، بدأت قوات المعارضة في سوريا عملية عسكرية واسعة النطاق نحو غرب حلب، انتهت بإسقاط نظام البعث خلال 12 يومًا فقط، وصولًا إلى 8 كانون الأول. ومع سيطرة المعارضة على العاصمة دمشق، انتهى فصل طويل من القمع والاستبداد في تاريخ سوريا.
وبينما كان البعض يحتفل بنهاية حقبة مظلمة، كان آخرون يعيشون ألم الفقد والغموض، يتساءلون عن مصير أحبائهم الذين لم يظهروا بين الناجين من السجون والمعتقلات. المشاعر كانت متضاربة، تجمع بين الفرح بالتحرر والمرارة على ما خلفته تلك العقود من جراح غائرة.
نظاما بعثيان قمعيان شاركا مصيرًا مشتركًا، فانهار كل منهما تحت وطأة الاستبداد والفساد، تاركين وراءهما إرثًا من القمع والخوف. سقوطهما يمثل نهاية حقبة مظلمة لكل من العراق وسوريا، حيث عانى الشعبان لعقود من الظلم، ليشهد العالم كيف أن الأنظمة المبنية على القهر لا تصمد أمام إرادة الشعوب مهما طال الزمن.
كلا النظامين خدعا مجتمعاتهما بادعاءات زائفة، متظاهرين بالدفاع عن العرب وحماية عزة المسلمين، وجعل تحرير القدس هدفهما المزعوم. لكن في الواقع، أسهما في تفريق الصف العربي والإسلامي، ووفرا الذرائع للقوى الاستعمارية للتدخل في شؤون المنطقة. ليس ذلك فحسب، بل فتحا المجال أمام الكيان الصهيوني للتوسع والتمدد، مما كشف زيف شعاراتهما وأهدافهما المعلنة.
مع انطلاق حملة حماس المنظمة على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023، واغتيال إسماعيل هنية في 31 تموز 2024، واستهداف السفارة الإيرانية في دمشق في 1 شباط 2024، والغارات الإسرائيلية على جنوب لبنان في 1 تشرين الأول 2024، واغتيال يحيى السنوار في 16 تشرين الاول 2024، وكذلك زعيم حزب الله في 27 أيلول 2024، إلى جانب تصاعد وتيرة الغارات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، دخلت المنطقة في منعطف حاسم وغير مسبوق. تسارعت الأحداث بشكل دراماتيكي، مخلفة وراءها حالة من التوتر والترقب على كافة المستويات.
الجميع أصبح يراقب هذا الخطر المتصاعد، حيث باتت التغيرات المتلاحقة تشكل ملامح جديدة للشرق الأوسط. التحليلات والاستنتاجات تدور حول سيناريوهات متعددة، بعضها يحمل احتمالات تصعيد أكبر، والبعض الآخر يتحدث عن فرص لتغيير موازين القوى. في خضم هذا المشهد المعقد، تعيش المنطقة حالة من الغموض وعدم الاستقرار، وسط محاولات لفهم تداعيات هذه التطورات على المستقبل القريب والبعيد.
في مقالتي السابقة حول الأحداث كتبت “إسرائيل تبدو أكثر استعدادًا لخوض الحرب اليوم مقارنة بأي وقت مضى، في حين أن إيران تسعى جاهدة لتجنب الحرب أكثر من ذي قبل. إيران في الوقت الحالي تبذل جهودًا كبيرة للحفاظ على نظام ولاية الفقيه، حتى لو كان ذلك يعني أن تقتصر سيطرتها على حدودها الداخلية. ولإطالة أمد الصراع المباشر وتجنبه، تعتمد على قوات محور المقاومة في عدة جبهات في دول مثل لبنان، سوريا، العراق، واليمن، مما يعكس نهجًا استراتيجيًا يقوم على تفويض المهام لحلفائها بدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة قد تكون مكلفة على الصعيدين العسكري والسياسي.”
لا يمكن إنكار أن إيران، عندما سعت إلى لعب دور محوري في دول مثل العراق وسوريا ولبنان، قدمت هذا الدور ضمن إطار رؤية توسعية تزعم أنها امتداد إسلامي أو مذهبي. ومع ذلك، يصعب تصديق أن هذا السعي ينبع من حرص خالص على استقرار هذه الدول أو تنميتها. في الواقع، من الصعب تصور وجود دولة تقدم جهودًا كبيرة أو موارد ملموسة لدولة أخرى دون أن تكون مدفوعة بمصالح جيوسياسية أو جيواقتصادية واضحة.
إيران، كغيرها من الدول ذات الطموحات الإقليمية، تعمل على تحقيق مصالحها الاستراتيجية، سواء عبر تعميق نفوذها السياسي أو تعزيز مصالحها الاقتصادية أو تحقيق أهداف أمنية. هذا الواقع تؤكده العديد من البراهين، التي تُظهر أن مصالح إيران في هذه الدول تتجاوز مجرد الحفاظ على الهوية المذهبية، لتشمل تعزيز نفوذها الإقليمي في مواجهة خصومها الدوليين والإقليميين. ومع أن التفاصيل قد تكون معروفة للبعض، فإن استعراضها هنا قد يكون خارج السياق، لذلك يمكن القول إن هذا السلوك يعكس طبيعة الديناميات التي تحكم العلاقات الدولية في المنطقة.
ماذا ينتظر العراق
بعد التطورات السريعة التي شهدتها المنطقة، أصبح الحديث يدور بشكل مكثف حول مستقبل العراق في ظل هذه التغيرات المتلاحقة والتوازنات الجديدة. يتزايد التركيز على دور محور المقاومة في العراق وتأثيره على المشهد العام، خاصة فيما يتعلق بما يجري في لبنان وسوريا، وما قد تكون عليه خطواته القادمة. هذه التساؤلات تكتسب أهمية أكبر مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية، التي تحمل في طياتها احتمال استهداف مواقع حساسة وحيوية داخل العراق.
لا يمكن عزل العراق عن مجريات الأحداث في المنطقة، فهو جزء لا يتجزأ من المشهد الإقليمي. ومن غير الواقعي افتراض أن جميع العراقيين، أو لنكن أكثر تحديدًا، جميع أفراد محور المقاومة في العراق، سيلتزمون بموقف الدولة المحايد تجاه ما يجري. فقد شهدنا بالفعل عمليات قامت بها بعض الفصائل، والتي أثارت حفيظة الحكومة وأحيانًا المرجعية الدينية.
الأيام المقبلة قد تكون صعبة على العراق، خاصة إذا لم تتمكن القوى السياسية الحاكمة من قراءة التطورات بواقعية وبعيدًا عن العاطفية. فهم التحولات الإقليمية والدولية وتبني مواقف مدروسة وواقعية سيكون أمرًا حاسمًا في تحديد مسار العراق. ومع ذلك، إذا واصلت الحكومة العراقية خطواتها الحالية بحكمة واتزان، فقد تتمكن من تحقيق النجاح في حماية البلاد من التداعيات السلبية للأحداث الإقليمية، وفي الوقت ذاته الحفاظ على استقراره وأمنه في وجه التحديات.
بصراحة، الحديث عن احتمالات حصول التغييرات أو ما يُسمى بـ “الشرق الأوسط الجديد”، في بلدان المنطقة التي شهدت زيادة ملحوظة في نفوذ طهران خلال العقدين الأخيرين، خصوصًا بعد ظهور تنظيم داعش، كان ولا يزال موضوعًا للنقاش والتحليل على مدار السنوات. على الرغم من أن هذه التغييرات قد جرت تحركات من أجلها، إلا أنه لم يكن لها النجاح الكامل دائمًا. لكن من المؤكد أن العراق كان من أولى محطات هذا التغيير، حيث شهد تحولًا كبيرًا في تأثير القوى الإقليمية. إلا أنه كان من الممكن أن يتطور الوضع بشكل مختلف لو لم يتم قمع احتجاجات الشباب والسيطرة على الموقف بعد اندلاع احتجاجات تشرين 2019.
من الجدير بالذكر أن الجنرال قاسم سليماني كان له دور أساسي في السيطرة على الاحتجاجات أو الوصاية عليها بقمعها، إذ عمل على ضمان بقاء الحكم في يد قوى الإسلام السياسي الشيعي، مقابل إجراء بعض التعديلات التي كانت تهدئ من مطالب المتظاهرين. من أبرز هذه التعديلات كان استقالة حكومة عادل عبد المهدي، حل مجالس المحافظات، وإجراء انتخابات عاجلة على أساس تطبيق نظام الدوائر المتعددة، الذي كان أحد المطالب الأساسية للمتظاهرين. هذا النظام فتح المجال أمام عدد من المتظاهرين للوصول إلى قبة البرلمان، مما أتاح لهم التأثير في مجريات الأحداث السياسية في البلاد. ورغم ذلك، ظلت التأثيرات الخارجية والمحلية تحد من قدرتهم على تحقيق مطالبهم بالكامل وإجراء تغييرات حقيقية في النظام السياسي في البلاد.
بالطبع، تراجعت قوة طهران وموقعها في المنطقة بشكل كبير بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني في غارة أمريكية بتاريخ 3 كانون الثاني 2020. كان سليماني يشكل يد طهران الطولى في المنطقة، حيث ساهم بشكل كبير في تعزيز نفوذ إيران عبر حلفائها مثل حزب الله في لبنان والمليشيات الشيعية في العراق، بالإضافة إلى توسيع التواجد العسكري الإيراني في العراق وسوريا. كما دعم النظام السوري في حربه ضد المعارضة السورية من خلال تنفيذ هجمات عسكرية.
كان هناك من يناقشني ويقول إن قوة طهران لن تتأثر بفراغ سليماني، وإن هناك المئات من الأشخاص مثله يمكنهم ملء الفراغ الحاصل. لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فإيران لم تتمكن من إيجاد بديل حقيقي لسليماني، مما أدى إلى تراجع قوتها الإقليمية بشكل ملحوظ.
من الحقائق الواضحة أن سليماني كان قد أسس الفصائل المسلحة في العراق والشام، وساهم شخصيا في تدريب وتوجيه الشباب ليصبحوا قادة عسكريين يمتلكون عددًا كبيرًا من المقاتلين، والمقرات، والعجلات، والمعدات العسكرية. علاوة على ذلك، كان سليماني يزج ببعض هؤلاء القادة في السياسة، وآخرين في السلطة، والبعض الآخر في التجارة، مما جعل من الصعب على أي شخص آخر أن يحل محله في هذه الشبكة المعقدة التي بناها.
أعتقد أن استراتيجية الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه العراق وحتى اليمن ستظل ثابتة على الأقل حتى وصول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة في 20 كانون الثاني 2025. القضية الأساسية التي تُشكل محور الخلاف بين هذه الدول والعراق تتمثل في هيئة الحشد الشعبي. هذه الهيئة تُعتبر تهديدًا بالنسبة لهما، بسبب طبيعتها وتركيبتها. ورغم أن الحشد الشعبي مرتبط رسميًا بالقائد العام للقوات المسلحة “رئيس الوزراء”، وله قانون ينظم عمله، فإن وجود فصائل عدة تعمل خارج إطار قرارات الهيئة وتُحسب عليها يشكل تحديًا كبيرًا. هذه الفصائل المستقلة تؤثر سلبًا على صورة الحشد الشعبي الرسمي. هذا الواقع يُعقّد الموقف الرسمي للحكومة العراقية أيضاً، ويضعها تحت ضغط دولي وإقليمي متزايد. حيث معالجة هذا الملف بحكمة ستكون ضرورية في المرحلة المقبلة لضمان الحفاظ على التوازن الداخلي وتجنب تفاقم التوترات الخارجية.
من المتوقع أن نشهد في الفترة القريبة ضغوطًا متزايدة تهدف إلى حل الحشد الشعبي أو دمجه في هيكليات الأجهزة العسكرية والأمنية العراقية الخاضعة لسلطة الدولة، وذلك في محاولة لتقويض سلطة “اللادولة” التي تُمثلها بعض الفصائل الاحزاب السياسية. هذه الضغوط قد تتضمن خطوات عملية مثل إنهاء وجود مخازن الأسلحة والمقرات العسكرية التي ترفع أو تحتوي على رايات وصور دينية إلى جانب العلم العراقي، وهو ما يُعتبر في نظر البعض نوعًا من التأكيد على نفوذ القوى الموازية.
قد تتزايد الدعوات لفصل قوات الحشد الشعبي عن الأحزاب السياسية ورجال الدين ورؤساء العشائر وأعضاء البرلمان ورجال الأعمال الذين يستغلون هذه القوات لأغراض سياسية أو اقتصادية، سواء كان ذلك من خلال حملات سياسية-انتخابية أو فرض قوتهم للحصول على مشاريع تجارية. يُضاف إلى ذلك استخدام حصانة الحشد الشعبي لنقل مواد قد تكون ممنوعة أو غير مرغوبة.
من غير المستبعد أن نسمع عن قائمة تضم أسماء بعض قادة الحشد الشعبي والفصائل المسلحة، تتضمن إجراءات مثل تجميد أرصدتهم في البنوك، مصادرة ممتلكاتهم المملوكة وغير المملوكة، ومنعهم من السفر. هذه الإجراءات قد تهدف إلى تقليص النفوذ العسكري والاقتصادي لهذه الفصائل.
بالإضافة إلى ذلك، وفي حال استمرار التوترات الإقليمية، قد لا يكون مفاجئًا أن نرى إسرائيل تستهدف بعض المقرات والمخازن العسكرية والممرات الاستراتيجية عبر غارات جوية، حتى وإن كانت الولايات المتحدة لا ترغب في هذا التصعيد. هذه التحركات قد تشكل جزءًا من سياسة الإضعاف للنفوذ الإيراني وحلفائه في العراق.
ماذا عن إيران؟
إيران أمضت عقودًا من الزمن واستثمرت مليارات الدولارات في بناء شبكة من المسلحين والحكومات التابعة، مما أتاح لها ممارسة نفوذ سياسي وعسكري في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ردع أي هجمات خارجية على أراضيها. ومع ذلك، انهارت هذه الركائز الأساسية للتحالف بشكل مفاجئ في غضون أسابيع قليلة. يُعتبر رحيل بشار الأسد عن السلطة في سوريا آخر انتكاسة استراتيجية كبرى لإيران، مما سيجبرها على إعادة النظر في سياساتها الأمنية الممتدة لعقود. يأتي ذلك في وقت حساس تواجه فيه إيران أيضًا تحديًا جديدًا متمثلًا في انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، الذي وعد بتصعيد الضغوط على طهران.
ومع تولي ترامب السلطة، من المحتمل أن تشهد السياسة الإيرانية تحولات كبيرة، خصوصًا في سياق التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إضافة إلى تراجع حليفها الاستراتيجي روسيا بسبب الظروف المستجدة، مثل تداعيات الحرب في أوكرانيا. هذه العوامل قد تدفع إيران إلى اتخاذ خطوات أكثر مرونة في سياستها الخارجية من أجل ضمان سلامة نظام ولاية الفقيه وحمايته في ظل التحديات العديدة التي تواجهها.
فيما يخص مسألة السلاح النووي، من الواضح أن إيران قد تتجنب اتخاذ نفس المواقف المتصلبة التي اتخذها صدام حسين في ملف الأسلحة النووية. ففي الوقت الذي رفض فيه صدام حسين التعاون مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالتحقيق في برنامج العراق النووي، مما أدى إلى تصعيد الأزمات وفتح المجال أمام الغزو الأمريكي في 2003. في حالة إذا تحركه الرئيس دونالد ترامب بعقلانية، فقد يسعى لإيجاد حلول دبلوماسية والعودة إلى طاولة المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني بدلاً من اللجوء إلى خيارات عسكرية. فإيران، رغم محاولاتها لتطوير قدراتها النووية، أظهرت اهتمامًا بإيجاد قنوات للتفاوض مع القوى الكبرى، كما حدث في الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي تم التوصل إليه في 2015. إذا جرت العودة إلى هذه المحادثات أو استئنافها، فقد تسعى إيران للتوصل إلى اتفاق يتيح لها الحفاظ على برنامج نووي سلمي دون إحداث تصعيد يؤدي إلى مواجهات عسكرية. من جهة أخرى، إذا اختار ترامب اللجوء إلى الضغوط العسكرية أو توجيه ضربات لإيقاف البرنامج النووي الإيراني، فقد يكون لذلك تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي والدولي، وقد يؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه.
من الجدير بالذكر أن العديد من الحقائق حول تاريخ برنامج الأسلحة النووية في المنطقة تُغفل، ومن بينها أن العراق بدأ برنامجه النووي قبل حكم صدام حسين، وحتى قبل تأسيس الجمهورية العراقية. كما أن البرنامج كان مدعومًا من الولايات المتحدة في البداية من خلال برنامج “الذرة من أجل السلام” الذي أطلقه الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في الخمسينيات. وكان هذا البرنامج يهدف إلى تقديم مساعدات نووية سلمية لحلفاء الولايات المتحدة في محاولة لمواجهة المنافسة النووية مع الاتحاد السوفيتي. هذا يبرز أن بداية المشاريع النووية في المنطقة لم تكن وليدة حكومات بعينها، بل جزءًا من سياق جيوسياسي أوسع.
بالإضافة إلى ملف السلاح النووي، يبدو أن إيران قد تواجه تحديات داخلية وخارجية تتطلب منها إجراء تغييرات في سياستها الإقليمية والدولية. أحد الملفات المهمة التي قد تشهد تحولات هو تعهد طهران بعدم التدخل في شؤون الدول المحيطة بها، ولابتعاد عن مشروعها التمددي وتخفيف دعمها للمجموعات المسلحة في المنطقة، وهو ما يمثل تحولًا كبيرًا في سياسة إيران التوسعية التي كانت تعتمد على النفوذ الإقليمي من خلال دعم الميليشيات والحركات الموالية لها في دول مثل العراق وسوريا ولبنان. من جهة أخرى، يبدو أن إيران تدرك أهمية إجراء إصلاحات داخلية لمواجهة الأزمة المتفاقمة، وقد يكون انتخاب رئيس إصلاحي مثل مسعود بزشكيان خطوة نحو تحقيق بعض هذه الإصلاحات. هذه التغييرات يمكن أن نكون جزءًا من جهود إيران للحد من الضغوط الدولية، خاصة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، الذين طالما انتقدوا تدخلات إيران في شؤون هذه الدول.
اٍستراتيجية العراق لردع الأزمة
العراق بحاجة ماسة إلى إصلاحات حقيقية في نظامه السياسي، خاصة في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها الدولة، بما في ذلك نفوذ “اللا دولة” الذي يتغذى من موارد الدولة ويتسبب في استفزاز الحكومة في العديد من الأحيان. إصلاح النظام السياسي يجب أن يبدأ بحصر السلاح بيد الدولة بشكل كامل، مما يعزز سيادة القانون ويسهم في استعادة قوة الدولة وهيبتها. كذلك، من الضروري القضاء على الفساد المالي والإداري والسياسي بشكل نهائي، من خلال إجراءات حاسمة ورادعة تشدد على المساءلة والمحاسبة.
إحدى الركائز الأساسية لهذه الإصلاحات هي إنهاء نظام المحاصصة الطائفية والقومية الذي أسس لتوزيع السلطة بناءً على الانتماءات الدينية والعرقية، بدلًا من الكفاءة والجدارة. استبدال هذا النظام بنظام سياسي يعتمد على أسس ديمقراطية حقيقية يستوجب بناء آلية دستورية جديدة تضمن حكومة أغلبية قادرة على تحقيق الاستقرار والتقدم في البلاد. هذا يتطلب تطوير برامج حكومية تنموية وخدمية تركز على تحسين مستوى المعيشة وتطوير البنية التحتية، بالإضافة إلى تعزيز القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والعدالة. من المهم أيضًا أن تكون هناك معارضة برلمانية حقيقية، لا مجرد معارضة شكلية، تكون لديها برامج إصلاحية واضحة وتعكس تطلعات المواطنين في تحدي الحكومة عندما لا تؤدي واجباتها أو لا تلتزم بمبادئ الحوكمة الرشيدة. المعارضة الحقيقية يمكن أن تكون محركًا قويًا لتحسين الأداء الحكومي، عبر مراجعة قرارات السلطة التنفيذية والعمل على تقديم حلول بديلة وواقعية.
كما ذكرت، العديد من هذه النقاط قد تم التأكيد عليها في خطب المرجعية الدينية، التي دعت مرارًا إلى ضرورة إصلاح النظام السياسي، محاربة الفساد، وتطبيق العدالة الاجتماعية، وهو ما يتماشى مع تطلعات العديد من المواطنين العراقيين الذين يطالبون بتغيير حقيقي يعزز من استقرار بلادهم ويحقق رفاههم.
لا يمكن إنكار أن العراق شهد تقدمًا ملحوظًا في بعض جوانب الديمقراطية وأجهزتها، حيث باتت هناك طبقة شبابية ناشئة تحمل فكرًا وطنيًا وتسعى إلى تطوير البلاد على أسس حديثة. هذه الطبقة تضم شبابًا من مختلف الأطياف يعملون على تعزيز الخطاب الوطني، وتطوير البنية المؤسسية للدولة، والموارد العامة، وأعمال حقوق الإنسان، والتصدي للفساد، وتوفير الخدمات للمواطنين من خلال الالتزام بالدستور وإصدار تشريعات قانونية تعزز الحوكمة الرشيدة.
إضافةً إلى ذلك، تسعى هذه الفئة إلى بناء علاقات إقليمية ودولية متينة تهدف إلى استعادة مكانة العراق الحقيقية في محيطه الإقليمي والدولي. هذه الجهود تأتي في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى إصلاح شامل يعيد للدولة سيادتها وقوتها. ومع ذلك، تبقى معضلة الفساد هي العائق الأكبر أمام تحقيق هذا الهدف. فالفساد، بما يشمله من مستفيدين ومتنفذين داخل المنظومة، لا يزال يقف حجر عثرة أمام بناء حكم راشد يقوم على العدالة والمساواة.
للتغلب على هذا التحدي، لا بد من إرادة سياسية قوية تعمل على محاربة الفساد بجدية، وتفعيل المساءلة القانونية، وتشجيع الشفافية في إدارة الموارد والمؤسسات في تحقيق تحول إيجابي يعيد بناء العراق على أسس سليمة وديمقراطية تعزز من تطلعات الشعب وتعيد للدولة دورها الفاعل في المنطقة والعالم.
ختاماً
العراق اليوم يواجه لحظة حاسمة تتطلب اختيارًا مصيريًا بين خيارين: إما إصلاح النظام من الداخل بجهود وطنية صادقة وجادة، أو مواجهة تغيير مفروض من الخارج قد يكون مكلفًا وغير مرغوب فيه. الخيار الأول يتطلب إرادة سياسية حقيقية، والتزامًا بإصلاحات جوهرية تشمل: حصر السلاح بيد الدولة، محاربة الفساد، فصل الدين عن الدولة، تعزيز سيادة القانون، تطوير الخدمات العامة، وضمان حرية الرأي والتعبير في الحياة السياسية والعامة. كما يتطلب بناء نظام سياسي ديمقراطي متوازن، يعتمد على الكفاءة والخطط التنموية بدلًا من المحاصصة الطائفية والقومية التي أضعفت الدولة.
في المقابل، التغيير المفروض من الخارج قد يصبح واقعًا إذا عجزت القوى السياسية العراقية عن تلبية مطالب الشعب في الداخل، أو عن اٍعادة النظر في علاقاتها الخارجية، لا سيما مع طهران، بالشكل الذي يطمئن القوى الإقليمية والدولية. ومع أن هذا السيناريو قد يبدو خيارًا لبعض الأطراف، إلا أنه غالبًا ما يأتي على حساب السيادة الوطنية والاستقرار الداخلي، الذي شهد تحسنًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة.
وعليه، يبقى الخيار الأمثل للعراق هو المضي بإصلاح شامل وجاد من الداخل، يستند إلى إرادة شعبية حقيقية وتوافق وطني واسع. هذا النهج ليس فقط ضمانًا لاستقرار البلاد، بل أيضًا السبيل الوحيد لتجنب التداعيات السلبية لأي تدخل خارجي قد يزيد الأوضاع تعقيدًا.