سيف ضياء دعير / طالب في برنامج دكتوراه السياسات العامة / جامعة النهرين
لم يعد تصور وجود نسخة طبق الأصل منا، تتطابق معنا في الذكريات والأفكار، بل وقد تحل محلنا أيضاً، مجرد خيال علمي، فالواقع المعزز بالتقدم المذهل في الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي يقترب بنا من هذا الاحتمال يوماً بعد يوم، مع التطور المتسارع لتقنيات الاستنساخ وإمكانية نقل البيانات العصبية، بل وربما نقل الوعي نفسه.
هنا يُطرح سؤال محوري: هل نحن على أعتاب ثورة تكنولوجية تبشر بشكل من أشكال الخلود؟ ذلك الحلم الأزلي الذي راود البشرية على مر العصور، والذي يجسد رغبتها الدفينة في تجاوز حدودها البيولوجية والفناء المحتوم، فمنذ فجر التاريخ، شكل هاجس البقاء الأبدي ورعب الموت الوجودي دافعاً أساسياً للبحث عن إكسير الحياة، تماماً كما دفع موت أنكيدو گلگامش، للبحث الدؤوب عن سر الحياة الأبدية، واليوم يتجدد هذا الهاجس مدفوعاً بتطورات علمية غير مسبوقة، تفتح آفاقاً جديدة في رحلة الإنسان المعقدة نحو الخلود، رحلة استكشاف تتجاوز حدود المألوف وتسعى لكسر قيود الزمن؛ متجسدة هذه المرة في مفهوم ((الخلود الرقمي : النسخ المتطابق، والتي تتجسد بكيان مكرر يحمل ذكرياتنا وأفكارنا، بل قد يحاكي وجودنا بشكل كامل))، ولعل التطورات المذهلة والتقارب والتكامل بين ((الهندسة الوراثية، والذكاء الاصطناعي)) يمثلان القفزة النوعية التي قد تخرج حلم الخلود من ((مملكة الأسطورة : الذي لطالما استحوذ على مخيلة كتاب الخيال العلمي)) إلى ((حيز الواقع: اي أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى))، وإن كان ذلك نظرياً؛ فلم يعد سيناريو استنساخ الكائنات الحية ونقل الوعي بكل ما يحمله من تعقيدات إلى أنظمة رقمية مجرد خيال علمي، بل بات مجالاً للبحث العلمي الجاد، وإن كان لا يزال في مراحله الأولى؛ مواجهاً تحديات (تكنولوجية، أخلاقية، وقانونية) هائلة.
وهنا تثار أسئلة ملحة وتساؤلات وجودية عميقة حول طبيعة الحياة والموت والهوية والوعي، هل تمهد هذه التقنيات الطريق نحو “الخلود الرقمي” ؟، وهل سنشهد يوماً ما عالماً يتيح للبشر تجاوز حدود الزمن البيولوجي، ويحقق لهم امتداداً رقمياً لوجودهم ليستمروا في الحياة بشكل أو بآخر، إلى الأبد؟، وهل يجسد بافتراض تحققه، انتصاراً حقيقياً على الموت، أم أنه مجرد وهم تكنولوجي؟، وهل سيفضي إلى نهضة حضارية غير مسبوقة، أم سيؤدي إلى فوضى قيمية واجتماعية يصعب التنبؤ بعواقبها؟
هذا ما يستدعي نقاشاً مُعمقاً يستشرف التداعيات الأخلاقية والفلسفية لهذه القفزة العلمية النوعية، لا سيما مع التقارب بين تقنيتي الاستنساخ وزرع الرقائق الدماغية، وكذلك صعود نجم إيلون ماسك، رائد الأعمال الأمريكي المعروف بدوره الريادي في مجالات التكنولوجيا المتقدمة وتأثيره المحتمل على مستقبل الحكومة الأمريكية، خاصة في ظل علاقته الوثيقة بالرئيس المنتخب دونالد ترامب، واختياره لتولي موقع نائب الرئيس الثاني وقيادة وزارة (كفاءة الحكومة DOGE)، التي تم انشائها مؤخراً بهدف توجيه عمل الحكومة لنهج ريادي قائم على الابتكار لتحقيق إصلاح هيكلي واسع النطاق .
من هذا المنطلق تسعى هذه الورقة البحثية إلى استكشاف مفهوم “الخلود الرقمي” من جوانبه المُختلفة، وتسليط الضوء على ابعاده، بدءاً من الأسس العلمية والتكنولوجية التي يقوم عليها هذا المفهوم، ومناقشة نقل الوعي وآليات تخزينه ومحاكاته، مستعرضين في ذلك أحدث الأبحاث في علوم الأعصاب، والحوسبة البيولوجية، والذكاء الاصطناعي.
كما ستناقش الورقة التداعيات (الأخلاقية، السلوكية، والاجتماعية، الاقتصادية) المترتبة على تحقيق، مستعرضة مواقف مختلفة من الفلاسفة والمفكرين حول هذا ذلك؛ ومحللين تأثيره المحتمل على مفاهيم (الهوية الشخصية، العدالة الاجتماعية، ومستقبل العلاقات الإنسانية)، وأخيراً، ستقدم الورقة رؤية استشرافية تستكشف التحديات والفرص التي يمثلها للبشرية، بهدف رسم صورة أكثر وضوحاً وموضوعية لمستقبل قد يكون فيه الخلود رقمياً .