back to top
المزيد

    واحة البيان

    “طوفان الاقصى” ومصير الدولة في العراق

    مصطفى حمزة مصطفى

    أين العراق قبل ٢٠٠٣ وبعدها من القضية الفلسطينية؟ ما هو الخطاب العراقي الرسمي تجاه ما يحصل في المنطقة؟ هل يلعب العراق حالياً دوراً رئيسياً في معادلة الصراع؟ وما هي التحديات التي يمر بها؟ وما هي التحديات الجديدة التي اضافها “طوفان الاقصى” مؤخراً الى مشروع الدولة في العراق؟ واخيراً، هل العراق “الرسمي” من ضمن محور المقاومة أم لا؟ جميع هذه الاسئلة تمثل شيئاً واحداً وهو مصير الدولة او مشروع النموذج الديموقراطي الذي رعته الولايات المتحدة الامريكية بعد ٢٠٠٣ قد يكون على المحك.

    العراق هو احدى دول الصراع المفصلية في التاريخ العربي المعاصر مع اسرائيل جنباً الى جنب مع مصر وسوريا. فقد اشترك بحروب “النكبة” ١٩٤٨ و “النكسة” ١٩٦٧ وكذلك حرب اكتوبر ١٩٧٣.  لم تتغير سياسة الحكومات العراقية المتعاقبة إزاء القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل. وآخر اصطدام رسمي بين العراق “الدولة” واسرائيل كان عام ١٩٩١ عندما قصفت بغداد تل ابيب ب٣٩ صاروخاً. وقد أعلن العراق إبان نظام صدام حسين التزامه بما جاء في المبادرة العربية ببيروت عام ٢٠٠٢ التي نصّت على حل الدولتين وهي المرة الاولى التي يعترف فيها العراق ضمنياً بحل الدولتين. لم يتغير الامر كثيراً بعد احتلال العراق على يد القوات الامريكية والتبشير بمشروع العراق الديمقراطي الذي سرعان ما تحول الى مشروع الطائفية السياسية والمحاصصة القائمة على المكونات، بالاضافة الى الحرب الاهلية ٢٠٠٦-٢٠٠٨ والتي أدت لظهور الجماعات المسلحة التي كانت سابقاً ترفع شعار مقاومة الامريكان والتي شكلت فيما بعد النواة الاولى للفصائل المسلحة الموجودة على الساحة العراقية التي تمثل “العراق غير الرسمي”. ويشير هذا المصطلح الى مدى قوة ونفوذ هذه الفصائل التي تنظر إليها اسرئيل بأنها تُصادر القرار العراقي بأكمله وأنها هي الدولة الفعلية، نظراً لامتلاك هذه الفصائل الى اسلحة قد لا يملكها الجيش العراقي مثل الطيران المسير الانقضاضي او الصواريخ بعيدة المدى التي تشكل خطراً كبيراً على الكيان الاسرائيلي. لذلك وضع نتنياهو العراق على “خريطة النقمة” في خطابه بالجمعية العمومية في اشارة منه إلى أن اسرائيل الآن لا تنظر الى “العراق الرسمي” الذي يقوم بدور دبلوماسي يحاول تجنيب البلاد الحرب عبر محاولات إقناع الولايات المتحدة الامريكية بأن العراق سيضبط ايقاع الفصائل المسلحة ويسيطر عليها. على الرغم من أن العراق الرسمي قد أعلن مراراً على لسان رئيس الوزراء محمد شياع السوادني الذي يقود مفاوضات مع الولايات المتحدة وأطراف دولية واقليمية لمنع أو تأجيل ضربة اسرائيلية على العراق آخرها كان تصريحا له يقول بأن “قرار الحرب والسلم هو بيد الدولة العراقية وحدها وكل من يخرج عنها سيكون بمواجهتها ومصلحة العراق فوق كل اعتبار”. وكذلك جاءت مواقف وزير الخارجية ومستشار الامن القومي على نفس النسق والاتجاه. إذاً فالعراق الرسمي موقفه يتلخص بأنه ضد اسرائيل وفي الوقت ذاته هو ضد ثنائية المواقف ما بينه وما بين الفصائل المسلحة التي اكتسبت مشروعيتها القانونية والشرعية من خلال مقاومة الاحتلال الامريكي للعراق، ومن بعد ذلك تجذرت الكثير من هذه الفصائل لتصبح لاحقا ضمن آلية الحرب على تنظيم داعش عام 2014. أما ما يخص رفع شعارات “تحرير القدس” والحرب على اسرائيل فهي جديدة على المتبنى السردي للفصائل العراقية لأنها بالأساس لم تتشكل لمحاربة اسرائيل، بل لمحاربة الامريكان في الداخل العراقي ومن ثم محاربة داعش. والدليل على ذلك أن مصطلح “وحدة الساحات” الذي يقصد به وحدة “محور المقاومة” بدأ بالظهور بعد الثامن من اكتوبر 2023 حينما انخرط حزب الله لإشغال الاسرائيليين في مناطق شمال فلسطين وجنوب لبنان، ما أُطلق عليه لاحقاً ب “جبهة الإسناد”. لتفكيك هذه المعادلة المعقدة عسكريا، امنيا، وجيوسياسياً فلا بد هنا الرجوع الى بدايات تكوين “الهلال الشيعي” في المنطقة الذي تم عبر تكتيكات واستراتيجيات مختلفة بدأت تحديداً منذ عام 1982 وهي السنة التي اجتاحت اسرائيل فيها لبنان, والسنة نفسها التي شهدت على تأسيس حزب الله ودعمه من قبل جمهورية ايران الاسلامية.  تكون هذا الهلال في ذروة الحرب العراقية- الايرانية – وهو العام ذاته التي بدأت ايران فيه باستعادة الاراضي الايرانية المحتلة من قبل العراق وآخرها كان خرمشهر وبدأ بعدها هجوم ايراني مضاد استمر حتى عام 1986 وانتهى بتحرير الفاو من قبل الجيش العراقي-  بعد أن ضم سوريا في عهد حافظ الاسد الى “تحالف استراتيجي” كما يصفه عبد الحليم خدام, ومن ثم اجتياح الجيش السوري الى لبنان بدعوى السيطرة على الاوضاع الداخلية بعدما نشبت الحرب الاهلية اللبنانية, وبالتأكيد تلك الفترة كان يبزغ فيها نجم حزب الله الذي هو الاخر كان في صراع مع حركة أمل. ونتيجة ذلك كانت سوريا ولبنان هم اوائل الدول التي دخلت ضمن معادلة القوى الاقليمية والتي جعلت من الهلال الشيعي في المنطقة قوة كبرى، والتحقت بهذا الركب فيما بعد العراق بعد 2003 واليمن المنقسمة بين جناحين، الجناح الاول يمسك بزمامه جماعة أنصار الله “الحوثي” والجناح الاخر هو الحكومة اليمنية المدعومة من قبل المجتمع الدولي. بالاضافة الى حركة حماس “مؤخرا” في قطاع غزة.

     وبالنظر الى خريطة الشرق الاوسط وغرب اسيا فأننا وجود لصراع بين معادلتين وهما:

    الاولى: المعادلة الايرانية التي تقود “محور المقاومة” وهي تحاصر اسرائيل عبر امتلاكها فصائل مسلحة مدعومة ايرانياً، وهنا المحاصرة تكون برية عبر امتلاك هذه الفصائل اسلحة يمكنها ضرب العمق الاسرائيلي كما رأينا منذ السابع من اكتوبر. وايضا محاصرة بحرية عبر إغلاق مضيق باب المندب من قبل الحوثيين وتندرج هذه المعادلة بما تسمى “دول الطوق”.

    الثانية: المعادلة الاسرائيلية التي تحشد الدعم الدولي لشرعنة ضرب هذه الدول بأكملها، بل بتوجيه ضربة مباشرة الى المصافي النفطية الايرانية والمنشآت النووية في ظل رفض امريكي واضح لمثل هكذا عملية التي قد تجر الجميع الى حرب اقليمية واسعة ستنخرط الولايات المتحدة فيها مجبرة للدفاع عن امن اسرائيل.

    وفي ظل هاتين المعادلتين، هنالك دولتان في المنطقة تحاول أن تمسك العصا من الوسط. الدولة الاولى هي العراق التي تجمعها مع الولايات المتحدة علاقة حددتها اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تشمل في احدى بنودها أن للولايات المتحدة الحق في اقامة قواعد عسكرية امريكية في الاراضي العراقية، بالإضافة الى أن الولايات المتحدة لها الحق في الدفاع عن النموذج الديمقراطي في العراق إن تم تهديده. لذا فأن الموقف العراقي الذي يحاول أن يوفي بالتزامات النظام مع الولايات المتحدة ومع القضية الفلسطينية هو موقف يمكن تبريره أن الدولة في حالة ضعف ما بين خطاب الفصائل المسلحة وما بين التزاماتها التي أسست لمشروع الدولة في 2003. وايضا هنالك النموذج السوري الذي يبدو متقارباً مع النموذج العراقي الا أن سوريا تلتزم صمتاً عُبِّر عنه ب “المريب” تجاه ما يحدث في فلسطين ولبنان منذ عام حتى الآن. فالصراع الدائر حالياً يمثل تصادم مشروعين وهو مشروع “الممانعة” الذي تقوده ايران وحلفائها، ومشروع “السلام والتطبيع” الذي تقوده اسرائيل وحلفائها وقد بلغا مساحة لا يمكن أن يعودا بعدها الى قواعد الاشتباك, وفي هذه الحالة دول متأرجحة مثل العراق وسوريا سيكون مصير انظمتها السياسية على المحك.

    التحديات التي يمر بها العراق قبل وبعد طوفان الأقصى

    بينياً هنالك الكثير من الازمات داخل المنظومة الحاكمة للعراق، واذا عدنا بتسلسل تاريخي بسيط, سنجد أن العراق مر بأربع ازمات خطيرة كادت أن تقلب النظام السياسي وتتخللها ازمات اخرى فرعية او تفصيلية, وتتلخص هذه الازمات بالآتي:

    1. الحرب الاهلية 2006- 2008
    2. الازمة السنية 2013 ودخول تنظيم داعش الى الساحة 2014 وإعلانه “دولة التمكين” او الخلافة الاسلامية
    3. مظاهرات تشرين/ اكتوبر 2019 التي مثلت بروز تيار شبابي “أغلبه من الشيعة” له موقف سلبي تماما من العملية السياسية وكادت أن تودي بالنظام مما جعلت الكتل والاحزاب السياسية في تصادم الى عام 2022
    4. طوفان الأقصى وما تخلله من أزمات سياسية داخل العراق خلال العام الماضي والحالي والاختلاف الكبير بين موقف العراق الرسمي وبين موقف الفصائل.

    قد استطاعت العملية السياسية في العراق بالنجاة من شرك الازمات الثلاثة الاولى لأسباب عديدة أهمها اعطاء الشرعية الدولية للحكومات العراقية بالمضي قدما، ولكن الاختلاف الحاصل في الازمة الاخيرة هو تخيير العملية السياسية العراقية بموقف واحد وثابت وهو: إما أن يكون العراق متماهياً مع موقف الفصائل المسلحة، أو أن يكون متماهياً مع الموقف الامريكي. ومن الواجب ذكره، فأن موقف المرجع الاعلى للطائفة الشيعية السيد علي السيستاني قد أعلن في بيان له أن الموقف الشرعي يجب أن يكون في إطار الاغاثة الانسانية والرفض السياسي. وتماهى مع هذا الموقف، موقف آخر لزعيم تيار الحكمة وأحد قيادات الإطار التنسيقي الحاكم في العراق، عمار الحكيم الذي شدد على نفس الموقف.  وهذان الموقفان يعنيان أن اولوية النظام السياسي يجب أن تكون في تجنيب العراق قدر الامكان ضربة اسرائيلية ربما قد لا تستهدف الفصائل وحدها، بل قد تتسع لتشمل منشآت عراقية لا سيما وأن بعض الفصائل قد أصبح لديها دور رسمي في الحكومة والعمل السياسي. وبالتالي تعني هذه الضربة ازمة اخرى تضاف على رفوف ازمات العملية السياسية.

    ايضا فأن الازمات لا تقتصر على الواقع السياسي الشيعي، فالسنة لديهم اشكالية كبرى تؤثر على مستقبلهم السياسي في البلد، وتجليات هذه الازمة هي في تعطيل وعدم اختيار رئيس جديد لمجلس النواب بعد إقالة رئيسه السابق محمد الحلبوسي لتصبح المدة عام تقريبا. فمنصب رئاسة مجلس النواب هو اكبر المناصب التي يمتلكها المكون السني في العراق، ولكن انشطار السنة الى حوالي ثمانية مشاريع وتيارات سياسية في مختلف التحالفات والولاءات قد عقّد من رؤية السنة لمفهوم الدولة اولا، ومن ثم مشروع الدولة العراقية ثانيا، ما حدا بسنة العراق الى المناداة “المعتادة” بمشروع الاقليم السني الذي ترفضه الكتل السياسية الشيعية وحتى الكردية. والآن فأن المجتمع السني فاقد للرؤية والمشروع السياسي او في أفضل الحالات مشتت بين أكثر من مشروع.

    ولا يختلف الامر كثيراً إذا راجعنا الواقع السياسي الكردي الذي هو الاخر قد انقسم الى مشاريع سياسية متعددة ولكل مشروع تحالفاته وولاءاته. فالانتخابات الاخيرة التي أجريت في العشرين من شهر اكتوبر قد تبدو طبيعية بالنسبة لنتائجها وهي حصول الحزب الديمقراطي الكردستاني على 39 معقدا والاتحاد الوطني الكردستاني على 23 مقعدا من أصل 100 مقعداً لبرلمان كردستان. والجدير بالذكر فأن هنالك مشاريع سياسية كردية مهمة مثل الجيل الجديد الحاصل على 15 مقعد في ظل تراجع واضح لحزب التغيير “كوران” الى مقعد واحد فقط. اما عن الاتحاد الاسلامي فقد حصل على 7 مقاعد وجماعة العدل الاسلامية على ثلاثة مقاعد. وحزب الجبهة الشعبية فحصل على مقعدين. هذه الخريطة قد عقدت الوصول الى اغلبية داخل برلمان اقليم كردستان وهي 51 مقعدا. وبالتالي فأن حكومة الاقليم ماضية باتجاه خلافات حادة اولا داخل الاحزاب السياسية الحاكمة، والمثال الاهم هو “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بقيادة مسعود بارزاني والاختلاف هنا يكمن بين رئيس الاقليم نيجيرفان بارزاني وبين رئيس حكومة الاقليم مسرور بارزاني لان من الواضح أن أحدهما سيفقد المنصب لصالح احدى الاحزاب المنافسة في الانتخابات. وبالتالي بقية الاحزاب سيكون بينها اختلافات كثيرة حول توزيع المناصب والوزارات. وما أود ذكره فيما يخص المسألة الكردية، فأن الكرد كانوا متحدين دائما حينما تتعلق أي مشكلة بين الاقليم وبغداد، أما ما يجري حاليا فأن الكرد أنفسهم انقسموا حول بغداد وبدا ذلك جليا بعدة قضايا أولها ازمة تصدير نفط اقليم كردستان، واختيار محافظ لكركوك الذي جاء بتوافق كردي متمثل بالاتحاد الوطني الكردستاني وشيعي متمثل بالإطار التنسيقي، مما أثار حفيظة الديمقراطي كثيرا لتتحول الى معركة اعلامية شرسة يتهم فيها احدهم الآخر بالخيانة والتفريط بمصير كركوك.

    ختاماً، إن الصراع الحاصل بين المشروعين او المعادلتين الايرانية والاسرائيلية قد جعل المنطقة في مفترق طرق خطيرة، ولا عجب إن تحولت القضية الفلسطينية الى عدة قضايا اخرى، فمستقبلا من الممكن أن نرى “قضية عراقية” و “قضية سورية” و “قضية لبنانية” بالاضافة الى “قضية يمنية” التي هي موجودة من الاساس. وعلى الصعيد العراقي وما ذكرته آنفا فالازمات تتلخص بأنها أعاصير مدمرة تحاول اقتلاع آخر ما تبقى من مشروع الدولة العراقية الذي لم يجد مرتكزا لا قبل 2003 ولا بعدها.

    والسؤال الدائم هنا، ما هو مصير هذا المشروع؟

    اقرأ ايضاً