مصطفى السراي / باحث وأكاديمي في العلوم السياسية، مدير الأبحاث والدراسات في مركز البيان للدراسات والتخطيط
تتميز الأنظمة الديمقراطية بنوع من التشابك، يطلق عليه عادة (تشابك المظاهر) ويعني ذلك، أن تكون هناك حالة من الارتباط الكبير بين جميع مظاهر الديمقراطية، السياسية، والاجتماعية والوظيفية
تشابك المظاهر ينطلق من فرضيات النظرية الديمقراطية التي تقلل الفوارق وتسمح بقدر كبير من التداخل بين وحدات النظام السياسية والاجتماعية والبيروقراطية، لا يسبب ذلك إشكالي كبير، على شريطة وجود قواعد فاصلة بين كل حالة ومظهر، وضمان عدم سيطرة حالة على أخرى، أو محاولات الحذف.
فعملية التشابك مهمتها خلق حالة من التشارك والتفاعلية تسمح للمواطنين المشاركة في إدارة الشؤون العامة، من خلال مظاهر الديمقراطية، مثل حق الانتخاب والتظاهر، وحق تأسيس الأحزاب السياسية، الذي يؤسس الحياة الحزبية في البلد، التي بدورها تقود العملية السياسية في إطار التنافس السياسي بالساحة السياسية. هذه المظاهر بدورها تقوم بتنظيم (الحياة العامة) للمواطنين، مع احتفاظ كل حالة بقدر من الخصوصية والاستقلالية التي لا تؤثر بها على بعض خصوصيات الحالات الأخرى.
إن الحالة في عراق بعد 2003، قد تبدو على خلاف ذلك، حتى باتت عملية التمييز بين مظاهر كل حالة صعبة على النخبة فضلا عن المواطنين المتضرر الأكبر بذلك، وهذا يتضح من خلال بعض الصور الذي سنبينها في هذا المقال…
ما هو الفرق؟
حالة الفوضى التي نعشيها في العراق تجعلنا أمام جدل مفاهيمي وعملي وتطبيقات واقعية يصعب تفسيرها أو تمييزها بحالات التي من المفترض تتميز بقدر من الوضوح، فكيف الحال بأمرً يعاني في الأساس جدل مفاهيمي، وهي الساحة السياسية والحالة الحزبية والحياة العامة، ماهي؟ ما الحدود الفاصلة بين كل واحدة منها؟ أليس الأنظمة الديمقراطية تتميز بحالة “تشابك المظاهر” والنظام العراقي ديمقراطي فلابد ان تكون حالة تشابك المظاهر موجود فأين المشكلة؟
هذه الأسئلة المركبة تفتح الباب أمام نقاش عميق قد لا يكفي ان يغطى بعدد كلمات معدودة للإجابة عليها، لكنها تضعنا أمام إشكالية كبيرة لابد من توضيحها ولو بالشيء القليل كي نتمكن من الإجابة على جزء من الأسئلة الأخرى، أو جميعها، وهذه الإشكالية هي “الجدل المفاهيمي” لهذه الحالات.
يمكن القول، أن الساحة السياسية؛ تعني فضاء العَلاقة بين الحاكم والمحكوم لتنظيم عملية الوصول إلى السلطة، وهذه الساحة توجد فيها عدة كيانات التي قد تكون ذات تأثير مباشر مثل النظام السياسي وطبيعة الإدارة السياسية، وطبيعة السلطة وشخوصها، وكيانات غير مباشرة لكنها أيضا تؤثر مثل النظام الاجتماعي، والنظام الديني، والنظام الثقافي للدولة، وغيرها من التفرعات والكيانات التي تتفاعل فيما بينها ضمن أطار تنافس الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها والاستمرار فيها، لتشكل بتلك الساحة السياسية.
في حين الحالة الحزبية؛ فهي جزء من كل، هي مظهر من مظاهر النظام السياسي الديمقراطي، أذ تنبثق الأحزاب من المجتمع لتعبر عنه في العملية السياسية، تصوغ الأهداف والبرامج والخطط التي تصب في مصلحة المجتمع وتحولها إلى قوانين وسياسات إجرائية بالاستفادة من تواجدها في مؤسسات إدارة النظام السياسي (السلطات).
أما الحياة العامة؛ فمن اسمها هي تلك المظاهر التي يتمتع بها المجتمع عامةً سواء سياسية، ثقافية، دينية، اقتصادية، ووظيفية، وهذه المظاهر تعبر عن شكل المجتمع وصيرورته، وقد تكون هذه المظاهر بعضها يميل إلى الثبات والاستمرارية حتى مع التغيرات السياسية أو تغير النظام السياسي، والشيء المشترك بين الحالات الثلاثة هو (الأفراد – المجتمع) أذ من المفترض ان تتشابك المظاهر الثلاث لتحقيق (الخير العام – النفع العام) لهم وهو أساس تكوين السياسة.
الساحة السياسية مسرح لكل شيء وسيطرة الحزبية عليها
الساحة السياسية بواسطتها عادةً يتم تحديد المرحلة السياسية الواقعية المبنية على أسس واقعية تشخص المشاكل العميقة وتضع الحلول المناسبة بالاستفادة من البرامج والخطط التي تتحول فيما بعد إلى سياسات عامة تنظم شؤون المواطنين، الذي بدوره يؤهل الفكر الشعبي للتحول نحو معالم فكرية جديدة يمكن بفضله تحقيق التوازن السياسي في العملية السياسية.
في البلد مثل العراق، يعاني إشكالية التوازن السياسي، ولا يمكن تحقيق ذلك الا بواسطة المشاركة الفعالة للشعب داخل العملية السياسية، وهذا التفاعل يأخذ اشكال عدّة كما وضحناها في مفهوم الساحة السياسية أعلاه.
أن النظام الديمقراطي هو نظام يبرز الهويات الفرعية، الطائفية، القومية، العرقية، المصلحية، الفئوية، لاسيما في بيئة مثل العراق الذي تحتضن تعدد كبير من هذه الهويات، وبعضها عانى سياسات الأنظمة السياسية قبل عام 2003، لذا فالساحة السياسية تضمن تفاعل جميع هذه الهويات، والفواعل الأخرى الدينية مثل رجال الدين والمرجعيات، والثقافية مثل العشيرة والقبيلة والنخب، والاقتصادية مثل التجار ورجال الأعمال وأصحاب المصالح، والسياسية مثل الأحزاب السياسية وجماعات المصالح.
حاولت الأحزاب السياسية بعد 2003، أن تختزل جميع هذه الفواعل والهويات من خلالها لتطلق شعارات تعبر عنها باعتبارها أنها الممثل الأوحد والأبرز لجميع هذه الفواعل، أخدت هذه الأحزاب صبغة دينية، وقبلية – عشائرية، ومصلحية فئوية تعبر عن مصالح جماعات معينة فقط، وأحزاب قومية، وأحزاب اقتصادية، حتى أصبحت التجربة السياسية والساحة السياسية، حزبية بحته تسيطر فيها الأحزاب السياسية على جميع مفاصل الساحة السياسية، ومؤسسات الدولة السياسية والإدارية.
هذه الأحزاب لا تنطلق من هدف تحقيق “النفع العام” وأنما تحاول ترسيخ مصالحها الخاصة والمحافظة على مكانتها في النظام والساحة السياسية، متجاوزة كل الاعتبارات، حتى مع تراجع أساس شرعية ومشروعية وجود هذه الأحزاب وهو (الرضا والقبول الشعبي).
باستعراض ما تظهره نتائج الانتخابات من تراجع وانخفاض الكتلة الصوتية للأحزاب الحاكمة لاسيما الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية تحديداً، وكذلك تراجع نسبة المشاركة العامة للانتخابات، أذ تشير التقديرات أن نسبة الانتخابات عام 2021، لم تتجاوز 27%، وعام 2023، لم تتجاوز 22%، في حين مثلاً عام 2014 بلغت نسبة الانتخابات 60%، وعام 2010 بلغت تقريبا 63%.
يمكن القول إن الجمهور العام بدأ يتضاءل والكتلة الصوتية بدأت بالتنازل، مع بقاء الكتلة الصوتية الحزبية فقط، التي عادةً تنشط ويصبح لها دور كبير جداً في تدني مستوى المشاركة السياسية، بسبب ان النظام الانتخابي العراقي يسمح بتوسع السيطرة الحزبية.
تنشط الكتلة الصوتية الصغيرة في نسب المشاركة العامة المتدنية لتمنح أحزابها الشرعية القانونية في ممارسة الحكم والبقاء وهذا ما يحصل منذ عام 2014، في مقابل تعمل القيادات السياسية الحزبية على توسيع قاعدة المنافذ الحزبية للمحافظة على الرابطة المصلحية بين افرادها والتصويت لها لمنحها الشرعية.
أصبحت الحالة الحزبية تسيطر على جميع مفاصل الحياة، فالنخب الحزبية أصبح دورها أقوى من النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية غير الحزبية، وبالتأكيد الأولى لا تعبر عن الصورة الحقيقية كونها نخب تمتع بأيديولوجية حزبية معينة.
كذلك امتيازات الجهاز البيروقراطي الحكومي أصبحت الأولوية فيه إلى الفئات الحزبية على حساب الآخرين، ويتضح ذلك في التوظيف، والنقل، والترقية، ومنح المناصب، والاستثناءات، والخدمات العامة، الخدمات الصحية، التعليمية، خدمات البنى التحتية وغيرها من الحالات، حتى باتت الدولة تسمى “دولة الأحزاب”.
وصف “دولة الأحزاب” أخطر مرحلة في الساحة السياسية، كونها تولد حاجز كبير بين الشعب والساحة السياسية، وما بين الشعب والقيادات السياسية، وما بين الأحزاب انفسهم، الذي يحاول كل حزب منهم التمتع بأكبر قدر ممكن من غنائم الدولة ليحتفظ بإمكانية تقديم الخدمات للحقلة الخاصة به.
انحسار مظاهر الحياة العامة
تعمل الطبقة السياسية من خلال ادارتها إلى أجهزة الدولة على تنظيم الحياة العامة للمواطنين بواسطة السياسيات العامة والإجراءات والبرامج والتطبيقات التي تضمن لهم الحياة الكريمة والاستقرار والرفاه الاجتماعي، والمحافظة على سيرورة الأنظمة الثقافية في الدولة وللمجتمع، دون التدخل في تغيرها، لتستمر الحياة العامة للمواطنين دون التأثر الكبير في الساحة السياسية أو حالة التنافس السياسي الحزبي.
في حالة العراق فالأمر أكثر تعقيداً، امتزجت الحياة العامة للمواطنين منذ اللحظة الأولى في الساحة السياسية والحالة الحزبية، فتأثرت الحياة العامة في الأعوام التي تلت الاحتلال بالحالة التنافس السياسي الحزبي، للتّحول إلى حالة طائفية تنهك الحياة العامة للمواطنين.
أصبح المواطنين قلقين على كل شيء في حياتهم قوتهم وأموالهم ووظائفهم وحاضرهم قبل مستقبلهم، ففي أي لحظة تنافر بين طرفيين سياسيين، ممكن ان تحدث أيام دموية كيوم الثلاثاء والأربعاء والخميس الدامية وغيرها من الأيام.
هذا الأمر غير حياة المواطنين أفقدهم عنصر الثقة والأمان وغير من الهوية الاجتماعية والديموغرافية للمجتمع الذي بدوره غير الهوية الثقافية للمجتمع، ولم يقتصر الأمر على ذلك فشملت الحالة الجهاز البيروقراطي الحكومي والخاص أيضا كما ذكرنا أعلاه، وخصوصاً مع تزايد الحالة الحزبية والسيطرة الحزبية على مفاصل الدولة جميعها.
بات المواطنين يشعرون انهم مواطنون من الدرجة الأول والثانية والثالثة، في الحصول على حقوقهم من الخدمات العامة التي من المفترض ان تقدمها الدولة دون تمييز وهذا ما أكده الدستور العراقي وصوت عليه المجتمع ليضمنون حقوقهم، فحياة التجارة والأعمال لا تتم بسياقها الطبيعي فهي متأثرة بالحالة الحزبية والتنافس السياسي، كما حدث مع مشروع (المستشفيات التركية) التي كان من المقرر بناءها في 10 محافظات عراقية وتفتح عام 2013، وبعضها لم يكتمل إلى الآن، وأي انتخابات تحدث، تتوقف بشكل كبير متطلبات واحتياجات المواطنين خوفاً من النتائج وما تبرزه وكيف سيؤثر في حياتهم، وهذا ينساق على الحالات الأخرى.
وكذلك في الحالات الاجتماعية – الثقافية، كالمناسبات الدينية، والاحتفالات، والمهرجانات، والأنشطة ذات الطابع الاجتماعي سُيست بشكل كلي، وأصبحت لا تخلو من الأصوات السياسية، حتى ان الجمهور الشعبي اخذ يتذمر من هكذا أنشطة اجتماعية نتيجة التسيس.
في حديث مع أحد وكلاء الوزراء الذي يرغب في عدم ذكر اسمه، يذكر بالنص (نحن قبل الانتخابات وبعدها نحاول أن نتجنب أي قرار، لأننا لا نعرف ماذا سيحدث بعد الانتخابات، فربما يتغير الوزير وكثير من القرارات تلغى أو تتغير، ونضطر إلى إعادة العمل).
هذا مثال بسيط يبن حجم التأثير في الحياة العامة للمواطنين، حتى أصبحت هناك عبارات متداولة في الأوساط الشعبية تبين حجم الازمة، أذ في محاولة لأي اتفاق مستقبلي بين اثنين تطرح عبارة (أن شاء الله، الله كريم ما ندري بعد عدلين ميتين، ما نعرف شراح يصير ما يصير).
ختاماً
يمكن القول أن هذه الحالة من السيطرة ولدت وستولد فوارق اجتماعية كبيرة بين المواطنين، وبين المنتفعين من أحزابهم كذلك، ففي الآونة الأخيرة تصاعدت حالة الانتقاد من النخب أو المنتمين للأحزاب الشيعية بسبب عدم تقديم الخدمات لهم بشكل كبير، يضاهي ما يحصل عليهم اقرانهم في الأحزاب السنية أو الكردية وغيرها، هذه الحالة تهدد النسيج الاجتماعي وطبيعة تماسك افراد المجتمع بينهم، وبين افراد المجتمع والأحزاب أو النظام بصورة عامة، مما يزيد من حالة عدم الرضا أو القبول الشعبي التي يفقد الأحزاب أو العملية السياسية شرعيتها ومشروعيتها، وتكون هذه الطبقة أمام تحدي لا يمكن تجاوزه بسهولة، وستكون جميع مخرجات النظام حتى وان كانت صحيحة غير مقبولة نتيجة عدم الثقة، لذا على القيادات السياسية ان تدرك حجم الازمة وان تعيد النظر في خطاباتها وبرامجها السياسية والانتخابية بما يتلاءم مع الحالة الواقعية للمجتمع الحالي، ولاسيما فئة الشباب الذي تعد قنبلة مؤقتة انفجرت بشدة عام 2019، وستنفجر مرات أخرى في القادم اشد وأقوى.