back to top
المزيد

    واحة البيان

    أهمية التثقيف الذاتي في بناء القدرات السياسية

    فهد احمد غازي / باحث في الشأن السياسي

    في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك القضايا، لم يعد الأعتماد على التثقيف التقليدي كافياً لبناء شخصية وأعية ومؤثرة، حيث أصبح التثقيف الذاتي أداة حيوية لا غنى عنها لتطوير قدرات الأفراد. ومع تزايد تعقيد القضايا ألاجتماعية والسياسية وألاقتصادية، برز دور المعرفة كوسيلة فعّالة لتمكين الأفراد من فهم حقوقهم وواجباتهم والمشاركة بفعالية في الحياة العامة. في هذا المقال، سنستعرض كيف يؤثر التثقيف الذاتي في بناء القدرات السياسية. في هذا المقال، سنسلط الضوء على محورين أساسيين، الأول مفهوم التثقيف الذاتي؟ وما أهمية التثقيف الذاتي ؟، والثاني دور التثقيف الذاتي في بناء القدرات السياسية وأبرز الوسائل الحديثة لتحقيقه؟

    أولا: مفهوم التثقيف الذاتي

     يعرف التثقيف الذاتي في أبسط صورة بأنه سعي الفرد المستمر لأكتساب المعرفة والمهارات بعيداً عن الأطار التعليمي التقليدي، حيث يستطيع الفرد التعلم بناء على اهتماماته الشخصية واحتياجاته المعرفية، من خلال القراءة والأطلاع المستمر للموضوعات التي تهم الفرد وفقاً لرغباته.

    أهمية التثقيف الذاتي؟

    في ظل التطورات التي تحصل في عصرنا لم يعد التعليم الرسمي وحده كافياً لتلبية متطلبات العصر وبناء عقول قادرة على التكيف والتطوير المستمر، وهنا يأتي دور التثقيف الذاتي، كأداة فريدة تمكن الفرد من أكتساب المعرفة وتنمية المهارات بشكل مستقل، مما يعزز قدراته على مواكبة التحديات وابتكار الحلول. فالتثقيف الذاتي يمكن الأفراد من تطوير تفكيرهم النقدي وتحقيق النمو الشخصي، والمساهمة في تطوير مجتمعاتهم، و يذكر الكاتب سلامة موسى في كتابه “التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا”، حين يذكر يجب علينا أن نكون ” موسوعيين ” بمعنى أن يمتد إدراكنا إلى الأدب، والأجتماع ، والفلسفة ، والسياسة ،وغيرها من العلوم الأخرى ، ويأتي دور التثقيف الذاتي كوسيلة لتحفيز الوعي وتعزيز الأستقلالية ، مما يجعله ركيزة أساسية للنجاح في الحياة المعاصرة. ولاشك أن تاثير الثقافة في الشخصية أمر ملموس لا يحتاج إلى برهنة أو تدليل، فالمثقف يكون منظم الذهن عميق التفكير واسع الأفق على وعي بما يدور حوله من أحداث وقضايا، كما يكون في الغالب قادراً على التعبير عن اَرائه بأسلوب واضح لا التواء فيه ولا تعقيد، والتثقيف الذاتي يتيح للفرد فرصة الأستكشاف الحر دون قيود، أذن إن التثقيف الذاتي ليس مجرد إضافة ثانوية إلى حياة الأنسان، بل هو عنصر حيوي لتحقيق النجاح في المستقبل، ومصدر للثقة والاستقلالية، وجسر للوصول إلى أفاق جديدة من الفهم والنضج الفكري.

    ثانيا: دور التثقيف الذاتي في بناء القدرات السياسية؟  

    في عصر حيث المشهد السياسي في حالة تغير مستمر والمشاركة المدنية أمر بالغ الأهمية لعمل الديمقراطية ، برز التعليم الذاتي كمكون أساسي في بناء القدرات السياسية ، وهنا يظهر التثقيف الذاتي كعامل جوهري في بناء قدرات الأفراد السياسية ، فهو يمكنهم من امتلأك رؤية شاملة ومرنة، وحيث يمكن الأفراد من تطوير فهم دقيق للأنظمة السياسية والأيدلوجيات والأحداث الجارية ، ولاسيما بعد التطور التكنلوجي وثورة المعلومات الرقمية تغيرت أساليب التعلم جذرياً ، مما أتاح للأفراد وسائل مبتكرة لتطوير معارفهم وقدراتهم، غير أن هذه الوفرة المعلوماتية تتطلب من الأفراد التمييز بين المصادر الموثوقة و المصادر الغير رصينة، لضمان الأعتماد على معلومات صحيحة تساعدهم في تعزيز قدراتهم السياسية بشكل سليم ومبني على أسس قوية.

    وأن من أهم أهداف التثقيف الذاتي خلق مجتمع واعٍ ومثقف، يعيش في حالة من النشاط الذهني المستمر، مما يؤهله لحل المشكلات السياسية دون الحاجة إلى تدخل من قلةٌ تهيمن على مقدراته الفكرية. فبهذا الوعي يصبح الأفراد قادرين على الحفاظ على أستقلالهم الفكري ومواجهة من يدعون أنهم وحدهم القادرون على الأرتَقاء بالأخرين عبر إنكار حقوقهم في التفكير الحر والمستقل. ويتجاوز التثقيف الذاتي تعزيز الوعي الفردي إلى بناء مجتمع يمتلك أدوات التحليل والنقد، مما يسمح لأفراده بفهم القضايا السياسية المعقدة وتقديم حلول مبتكرة قائمة على المعرفة، وليس على الأهواء أو النفوذ، وعندما يصبح الأفراد مسلحين بالمعرفة، تقل فرص استغلألهم من قبل يسعون إلى فرض سيطرتهم الفكرية، وبهذا يكون المجتمع أكثر أستعداداً للمشاركة بفعالية في رسم مستقبلهٌ ، مما يضمن لهٌ نظاماً سياسياً أكثر عدلاً وتوازناً يعبر عن تطلعات جميع أفراده. وكان التثقيف الذاتي ركيزةً أساسية لدى العديد من القادة والزعماء السياسيين الذين تركوا بصمة في مجتمعاتهم، من أبرزهم ” المهاتما غاندي ” الذي أعتمد على التثقيف الذاتي في صياغة فلسفة فريدة للمقاومة السلمية ونبذ العنف، وبهذهِ الفلسفة قاد حركة الأستقلال الهندي، ملهماً أجيالاً من الحركات السلمية حول العالم. وكذلك ” أبراهام لنكولن ” الذي أستخدم التثقيف الذاتي كوسيلة لرؤيته القيادية، بحيث أعتمد على معرفتهِ الذاتية لتوجيه قراراتهٌ السياسية، وخاصةً في معالجة قضية العبودية، وأستطاع لنكولن التعبير عن قيم إنسانية عالية في خطاباتهِ، مما يجعلهٌ رمزًا للقيادة الأخلاقية في التاريخ الأمريكي. وبهذا يظهر أن كل من غاندي ولنكولن أستغلا التثقيف الذاتي ليس فقط لتعزيز قدراتهم الشخصية، بل أيضاً لأحداث تغييرات جذرية في مجتمعاتهم نحو تحقيق العدالة والسلام.

    وسنذكر الان أبرز الوسائل الحديثة للتثقيف الذاتي؟

    1-المقالات العلمية والابحاث : حيث تعتبر المقالات العلمية والابحاث من المصادر الأساسية والمهمة في التثقيف الذاتي، خاصة في العصر الحديث، أصبح الوصول إلى المصادر أسهل وأوسع من أي وقت مضى، ما يوفر للأفراد فرصة للاطلاع على أفكار وتحليلات عميقة حول القضايا السياسية المعاصرة ، وتتوفر العديد من المنصات الرقمية التي تسهل عملية الوصول إلى هذه الأبحاث ، فعلى سبيل المثال، توفر ” المجلة الأكاديمية العراقية” مقالات وبحوث علمية متخصصة تسلط الضوء على التحديات السياسية والاجتماعية في العراق والمنطقة العربية ، كما يعد محرك البحث، أداة قوية للبحث في اَلاف الدراسات الاكاديمية في مجالات متنوعةGoogle Scholar” باستخدام هذه المنصات، يستطيع الأفراد الوصول إلى أبحاث علمية موثوقة وملموسة، مما يمكنهم من بناء فهم عميق للسياسة استناداً إلى مصادر موثوقة وذات مصداقية عالية.

    2- الكتاب : يعد الكتاب من وسائل التثقيف الذاتي الأساسية ، لأنه يقدم للأفراد محتوى شاملاً وغنيًا بالمعلومات ،ما يمكنهم من بناء فهم قوي ومستقل في مجالات متعددة، ويتيح لهم تطوير رؤى أعمق حول المواضيع التي يدرسونها ، إلى جانب ذلك يمثل الكتاب مصدرًا موثوقًا يمكن العودة إلية للبحث ، هناك العديد من الكتب السياسية التي تتيح فهمًا أوسع للتاريخ السياسي والاستراتيجيات وأساليب القيادة ، ومنها كتاب ” الامير لنيكولو مكيافيلي” حيث يقدم هذا الكتاب رؤى حول طبيعة السلطة والسياسية ، ويعتبر من الاسس التي استندت إليها الدراسات الحديثة، وكذلك كتاب ” صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون” يناقش فيه التحولات الثقافية والسياسية العالمية ، ويعتبر مرجعًا لفهم التوترات بين الحضارات المختلفة ، وأيضا كتاب ” الدبلوماسية لهنري كيسنجر ” ، حيث يشارك كيسنجر رؤاه حول الدبلوماسية والسياسة الخارجية بناء على خبرته الطويله. وبالإضافة إلى الكتب المطبوعة، أًصبحت ” الكتب المسموعة ” وسيلة حديثة ومميزة للتثقيف الذاتي خاصة في عصرنا الحالي، وتوفرها العديد من المنصات المميزة التي تقدم الكتب المسموعة مثل ” ستوري تيل، أوديبل “، يعتبرن من أشهر المنصات المسموعة الذين يحتون على مكتبات ضحمة تضم الكتب المتنوعة.

    3- البودكاست : يعتبر البودكاست من الوسائل الحديثة والفعالة للتثقيف الذاتي ، فهو يوفر محتوى صوتي متنوع يغطي مختلف المجالات ، ويمتاز البودكاست بالمرونه الكبيرة التي يوفرها ، اذ يمكن الاستماع إلية في اي وقت ومكان ، مما يجعله خيارًا ممتازًا لمن يرغب في الاستفادة من وقته أثتاء التنقل أو ممارسة الأنشطة اليومية ، ويتيح البودكاست للأفراد الاطلاع على مناقشات وتحليلات معمقة مع خبراء ومختصين في مواضيع محددة ، مما يساعد على بناء فهم أفضل للقضايا المعاصرة ، وهناك العديد من البودكاست التي تقدم محتوى مميز في مختلف المواضيع ومنها السياسية ، مثل بودكاست ” ثمانية ” ، وبودكاست ” بدون ورق ” ،إن هذه البرمج تقدم محتوى غنيًا يجمع بين المعلومات والتحليل، مما يساعد المستمعين على تطوير أفكارهم ونظرتهم للأمور بشكل سلس.

     4- الندوات والورش التدريبية : تعتبر الندوات والورش التدريبية من الوسائل الفعالة للتثقيف الذاتي ، حيث تلعب دورًا مهمًا في تطوير المهارات والمعرفة ، خاصة في المجالات السياسية ، حيث تتيح هذه الندوات والورش للمهتمين بالسياسة تبادل الأفكار والخبرات مع خبراء ومختصين ، وهذه التفاعلات تساعد من فهم القضايا السياسية ،وكذلك تساعد على تطوير ” المهارات النقدية “، من خلال المناقشات والأنشطة التفاعلية ، حيث يمكن للمشاركين تنمية المهارات التفكير النقدي والتحليلي ، وكذلك تقدم الورش التدريبية فرصا ” لتطبيق العملي “، حول كيفية مثلاً، إدارة الحملات الانتخابية، أو التعامل مع الأزمات، أو تطوير استراتيجيات التواصل الفعالة.

    الخلاصة

    ختاماً، يمكن القول إن التثقيف الذاتي ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو عنصر أساسي في تمكين الأفراد سياسياُ، ويعزز من قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة والمساهمة في تطوير مجتمعاتهم بشكل فعال، ومع توافر وسائل التثقيف الذاتي الحديثة، لم تعد المعرفة حبيسة النظم التعليمية التقليدية ، بل باتت متاحة للجميع عبر مصادر متنوعة تغذي الفكر وتعمق الفهم للعالم ، فمن خلال القراءة المستمرة، والتعلم من التجارب، والانخراط في النقاشات، يستطيع الأفراد تكوين رؤية متكاملة للشون السياسية محلياً وعالمياً. والتاريخ خير شاهد، حيث تمكن العديد من القادة العظماء من إحداث تغييرات كبيرة في مجتمعاتهم، مستندين إلى معرفتهم الذاتية المستقلة.

    اقرأ ايضاً