حسين المولى / استاذ جامعي متخصص بقانونية تطبيقات الذكاء الاصطناعي
من المعلوم أن التطور التقني أتاح أفكارًا جديدة وعديدة في المجال القانوني، بعضها يمكن معالجته بسرعة تشريعية، بينما قد يستغرق البعض الآخر وقتاً أطول نظراً للتطور السريع، وهذا يعد من التحديات التي تواجه القوانين والأنظمة الحالية، إذ غالباً ما تكون بطيئة في مواكبة تسارع التقنية، ومن بين هذه التطورات، يبرز النقاش حول حجية الأدلة الصوتية في الإثبات القانوني، سواءً في المجال الجنائي أو المدني.
التوجه التقليدي لحجية التسجيلات الصوتية وأوجه القصور
اتبعت العديد من التشريعات نهجًا تقليديًا يتمثل في عدم جواز تسجيل المكالمات دون إذن مسبق من السلطات المختصة، هذا الاتجاه، رغم وجاهته في بعض الظروف، لا يمكن اعتباره قاعدة ثابتة وشاملة لجميع الحالات، إذ نلاحظ في التطبيق القضائي، سواء في العراق أو العديد من الدول، الكثير من الحالات التي تتطلب معالجة استثنائية، على سبيل المثال، لإثبات جريمة سب وقذف حدثت عبر الهاتف بشكل آني، يصبح الحصول على إذن مسبق أمرًا غير عملي، مما قد يؤدي إلى ضياع حقوق الأفراد، وفي حالات الابتزاز الهاتفي، قد يكون التسجيل الوحيد المتاح وسيلة لحماية الضحية، هذا الاتجاه التقليدي، على الرغم من أهميته، قد يحتاج إلى تطوير لاستيعاب خصوصية بعض الحالات.
التحديات الجديدة مع تطور تقنية الذكاء الاصطناعي والتزييف الصوتي
إن التقدم في الذكاء الاصطناعي أدى إلى ظهور تقنيات التزييف العميق (Deepfake)، التي تتيح توليد وتعديل أصوات بطرق يصعب اكتشافها، هذا التطور يطرح تساؤلات جدية حول مصداقية التسجيلات الصوتية وحجيتها كأدلة، يمكن للتزييف الصوتي، على سبيل المثال، أن ينشئ تسجيلات تبدو حقيقية، مما يجعل قبول التسجيلات كأدلة أمراً يتطلب حذرًا متزايدًا، لذا، لا بد من وضع معايير صارمة للتحقق من صحة التسجيلات الصوتية، مثل استخدام تقنيات التوقيع الرقمي أو خوارزميات التحقق المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التي تساعد في التحقق من أصالة الصوت وتاريخ تسجيله.
التوازن بين حجية التسجيلات وحماية الخصوصية
تشكل الخصوصية الشخصية حقًا دستوريًا يحظى بحماية قانونية، سواء في العراق، حيث يتناول الدستور العراقي لعام 2005 هذا الحق، أو في تشريعات أخرى، ومع توسع شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الخصوصية مهددة في حالات عديدة، لذا، يصبح التحدي هنا في كيفية تحقيق التوازن بين حماية حقوق الأفراد في خصوصيتهم وحق المجتمع في الوصول إلى الأدلة لكشف الجرائم. ولتحقيق هذا التوازن، يمكن تبني قواعد تقيّد استخدام التسجيلات الصوتية في الإثبات، بحيث لا تُستخدم إلا في الأطر القضائية، وتُمنع من التداول في وسائل التواصل الاجتماعي أو بين الجهات غير المختصة، حمايةً لخصوصية الأفراد ومنعاً لأي استغلال سلبي لهذه التسجيلات.
نماذج من التشريعات الدولية الحديثة
اتبعت بعض الدول الأوروبية تشريعات حديثة تهدف إلى تنظيم استخدام الأدلة الصوتية في الإثبات مع مراعاة التقدم التقني، فعلى سبيل المثال، تتبنى بعض الدول قوانين تفرض شروطًا صارمة لضمان مصداقية التسجيلات الصوتية، مثل وجوب الحصول على إذن مسبق عند تسجيل المكالمات في حالات جنائية حساسة، أو السماح باستخدام التسجيلات بشرط خضوعها لتحليل تقني متقدم يثبت خلوها من التلاعب، الاستفادة من هذه التجارب التشريعية قد توفر إرشادات هامة للمشرّع العربي، حيث يمكن استلهام آليات تحقق مشابهة في التشريعات المحلية.
وبناءً على التحديات التي فرضها التقدم التقني، يجب على المشرّع النظر في تحديث القوانين لتواكب هذا التطور وتضمن حماية حقوق الأفراد في ظل متغيرات التقنية الحديثة، على سبيل المثال، قد يكون من المفيد اعتماد نظام متكامل للتحقق من التسجيلات الصوتية قبل قبولها كأدلة، بما يشمل تحليل الأصالة التقنية باستخدام الذكاء الاصطناعي أو تقنيات تشفير الصوت الرقمي، كذلك، يمكن النظر في تبني معايير خصوصية محددة تضمن استخدام الأدلة الصوتية في التحقيقات الجنائية فقط، وتجنب إفشائها لجهات غير مختصة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
توصيات عملية للمشرّع
ختاماً، يتطلب التعامل مع الأدلة الصوتية الحديثة توجهات قانونية مرنة ومعايير تقنية صارمة. ولتحقيق ذلك، نقترح على المشرّع:
1- وضع معايير للتحقق من أصالة التسجيلات الصوتية عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
2- تعزيز إجراءات حماية الخصوصية عند استخدام الأدلة الصوتية، ومنع نشرها إلا بإذن من الجهات المختصة.
3- استحداث قوانين أو تعديل القوانين الحالية لضمان مواكبتها للتطورات التقنية، بما يحفظ حقوق الأفراد ويحقق العدالة.
4- النظر في إدخال مفهوم التزييف الصوتي كجزء من قوانين الأدلة الجنائية، مع تكييف الأحكام القانونية لتتواكب مع التحديات المستقبلية.
بهذا، يمكن للمشرّع مواجهة التحديات الناشئة عن التطور التقني في الأدلة الصوتية بمرونة قانونية وضوابط تقنية فعّالة، تضمن تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد في ذات الوقت.