د. سعد سلوم: أستاذ العلاقات الدولية، كلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية. أسهم في إطلاق العديد من المبادرات الثقافية والفكرية في بغداد مثل مبادرة الحوار المسيحي الإسلامي 2010، المجلس العراقي لحوار الإديان 2013، والمركز الوطني لمواجهة خطابات الكراهية 2018، ومعهد دراسات التنوع الديني 2019، ومعهد صحافة التنوع في العراق 2020. له 21 مؤلفا باللغة العربية عن ثقافة وفولكلور وتاريخ المكونات الاجتماعية العراقية المخلفة، فضلا عن دراسات منشورة باللغات الانكليزية والفرنسية والايطالية.
منذ الإبادة الجماعية للأرمن 1915- 1923، على يد الأتراك العثمانيين، التي راح ضحيتها نحو المليون إنسان، شرع المسيحيون ينزحون إلى الدول المجاورة، ويتركون أديرتهم وكنائسهم وقراهم، وفي أثناء الحكم الملكي في العراق، أرست سياسة الانتقام التي واجهها الأشوريون بسبب تعاونهم مع البريطانيين أبان الحرب العالمية الأولى، تقاليد العنف التي توجت فيما بعد بأول انقلاب عسكري في العالم العربي (انقلاب بكر صدقي 1936). ودفع عدم الاستقرار السياسي منذ العام 1958 ومجيئ العسكريين بعربة الانقلابات، إلى هجرات متتالية نحو ملاذات الاستقرار في الغرب، وكان تدمير كثير من قرى المسيحيين، وقصف كنائسهم، ونسف أديرتهم دافعاً للنزوح أو الهرب أو الهجرة وسط حرب الحكومة المركزية مع الأكراد منذ ستينات القرن الماضي.
وقبل أن يتيح عقد السبعينيات هامش استقرار نسبي، حفز اعتلاء صدام حسين للسلطة صراعات داخلية واقليمية، فدفع كل من يحمل خيار الاختلاف السياسي إلى الهرب من مواجهة محسومة مع قبضة استبداد حديدي، أتمه دخول نظام البعث العلماني أتون الحرب الطاحنة مع إيران الإسلامية 1980-1988، فدفعت أفواجا جديدة من المسيحيين لاختيار الهرب من جنون الصراع الإيديولوجي للكبار. وجاء جنون آخر في 1991 في حرب الخليج الثانية في اعقاب غزو العراق للكويت، وما اقترن بها من حصار اقتصادي، بضغوط جديدة 1990-2003، جعلت هجرة اللاعودة حتمية مع انطلاق الحملة الإيمانية في التسعينيات، التي مثلت خيارا سياسيا لأسلمة البلد في ضوء الصراع مع الغرب، فأعيد تعريف الأخير دينيا لكي يلائم متطلبات الصراع الذي كان يخوضه نظام البعث مع عالم أعدائه، فأصبح خيار المسيحيين أكثر تعقيدا وصعوبة في ظل نظام علماني يتأسلم.
ثم أتخذ عنف الجماعات الإسلامية المسلحة الذي انطلق ضد المسيحيين في عراق ما بعد 2003 طابعا مقيتا، مع ما يحمله هذا العنف من ثقافة الإقصاء الذمية، التي جعلت المسيحي “نصرانيا” و”ذميا”؛ أي إنسانا من درجة أدنى، مطلقة هجرة مسيحية عكسية إلى مناطق سكنهم الأصلية في سهل نينوى، وملاذات مؤقتة في كردستان العراق، ولتشهد البلاد أكبر هجرة للأقليات في تاريخ العراق المعاصر.
غير إن التحول المفصلي لم يبدأ مع غزو تنظيم داعش لمناطق تركز المسيحيين في الموصل وسهل نينوى عام 2014، فقد كانت مذبحة كنيسة سيدة النجاة 2010 هي الحدث المركزي الذي شكل علامة الخطر الأكبر على الوجود المسيحي في العراق والشرق الأوسط.
تحفز الذكرى الرابعة عشر للمذبحة بعض الاسئلة المحلة: هل تحولت مذبحة كنيسة سيدة النجاة الى حدث منسي؟، هل كشفت الجريمة عن إن المسيحية أصبحت على شفا الانقراض في معظم أنحاء الشرق الأوسط. وعلامة على عقود من التدهور في الوزن الديموغرافي لأقلية متجذرة في المنطقة. وتحذيرا من محطات مقبلة، أكثر مأساوية، بعدها بأربع سنوات في الموصل وسهل نينوى؟ ما الدور الذي لعبته سياسة التدخل الخارجية الغربية وسياسات القمع الداخلية في هذا المسار التراجيدي لتدهور مكانة الشرق الأوسط في خريطة التنوع الديني العالمية؟ ما دلالات المسار المتصاعد المرتبط بمتوالية العنف العددية كل أربع سنوات: تفجير ضريح العسكريين في سامراء 2006، مذبحة كنيسة النجاة في بغداد 2010، غزو داعش لمحافظة نينوى 2014؟، كيف ينبغي للتاريخ أن يحكم على ما حدث للمسيحيين في الشرق الأوسط، وما الدروس التي يمكن تعلمها من ديناميات الاستنزاف التدريجي للمكونات السكانية التي تشكل رأس مال بشري لا يمكن تعويضه؟ وأخيرا، ما الذي ينبغي فعله بعد فوات الآوان؟