أحمد حسن / باحث وأكاديمي
الشرق الأوسط كان وما زال محط أطماع وأحلام القوى الكبرى، ولا سيما تلك التي تتسابق على السيادة والهيمنة. إنها الأرض التي لا يهدأ على ربوعها الصراع، حيث تتقاطع المصالح وتتشابك الأهداف. فمنذ زمن طويل، كانت موارده الطبيعية، وعلى رأسها النفط والغاز، سببًا في إشعال الحروب وإعادة رسم خرائط التحالفات. هذه الموارد تمثل الأساس للاقتصاد الحديث، وعصب الصناعة والتجارة والتكنولوجيا، وهي ركيزة القوة السياسية وأداة الهيمنة العالمية.
وفي هذا السياق، لا يخفى على فطنٍ ما قاله المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، حين ارتقى المنبر في تأبين زعيم حزب الله حسن نصر الله، حيث ألقى بخطاب تخللته إشارات ودلالات، ما يكاد يخلو منها معجم الجيوسياسة. ابتدأ حديثه بما يمس القلوب ويحرك المشاعر، عن “واجب الأمة الإسلامية” تجاه فلسطين ولبنان، وكيف أن واجب الدفاع عن المظلومين والمقهورين فرضٌ لا يسقط عن رقاب المسلمين. ولكنه ما لبث أن نقل الحديث من دائرة الواجب الأخلاقي والديني إلى حيز المصالح الجيوسياسية الأعمق.
أيران بين الطموحات الإقليمية والتحديات الدولية: منافسة على موارد الطاقة
إذ لم يكن حزب الله بالنسبة لخامنئي حركة مقاومة فحسب، بل هو سد منيع في وجه الهيمنة الإسرائيلية والغربية على المنطقة. هو ذراع من أذرع القوة الإيرانية التي تتشابك مع غيرها، لتنسج بها خيوط السيطرة الإقليمية. وهنا يكشف لنا خامنئي عن وجه آخر للصراع، وجه يتقاطع فيه الدين والسياسة، الاقتصاد والقوة.
فالنزاع، في رأيه، ليس على حدودٍ ولا على موارد ظاهرية فحسب، بل هو في الأصل نزاع على الثروات العظمى التي تحتويها هذه الأرض. النفط والغاز، هاتان المادتان اللتان تشكلان أساس الاقتصاد العالمي، صارتا مركز الاهتمام وساحة الصراع، والوسيلة التي تحكم بها القوى الكبرى قبضتها على الشرق الأوسط.
الغاز والنفط، هذان الموردان اللذان يجري الحديث عنهما في كل مجلس، ويُحكم بهما على كل مائدة سياسة، باتا اليوم من أمهات الأمور التي تشغل بال الدول العظمى، وتتحكم في مسار التحالفات والمواجهات. فما من دولة تسعى لتمكين سلطانها ولا قوة تحاول بسط نفوذها إلا وهي تنظر إلى هذه الثروات كما ينظر العطشان إلى الماء الزلال. وفي هذا السياق، كانت كلمات المرشد الأعلى، علي خامنئي، بمثابة مرآةٍ تُظهر ما خفي من عُقد الصراع على موارد الشرق الأوسط، وخصوصًا الغاز الذي تسعى إيران لتصديره إلى السوق الأوروبية.
إذ إن إيران كانت تمني نفسها طويلًا أن تكون القائم على هذا الباب الكبير، بائع الغاز إلى أوروبا، إذ ترى فيه وسيلةً لتعزيز حضورها بين الأمم وزيادة هيبتها في محافل الاقتصاد والسياسة. لكنّ الرياح، كما يُقال، تأتي بما لا تشتهي السفن. فمقتل حسن نصر الله لم يكن سوى بداية لتعقيدات أخرى باتت إيران تواجهها، لتجد نفسها في مواجهة إضافية مباشر مع قوتين إقليميتين لا يُستهان بهما: روسيا وتركيا.
أما روسيا، فهي أشبه بمن يحمي كنزًا ثمينًا، لا يرضى بأن يشاركه فيه أحد. فهي من كبار مصدري الغاز إلى أوروبا، واقتصادها يقوم على هذا العصب الحيوي. ولذا، لا عجب أن تراها تُحدّق في كل خطوة تقوم بها إيران نحو السوق الأوروبية بعين المتربص الحذر. فروسيا لا ترى في إيران شريكًا يمكن أن تتقاسم معه الغنائم، بل خصمًا قد ينازعها حصتها من الذهب الأسود. ولهذا، فإنها تتحرك في كل اتجاه لتُبقي إيران بعيدةً عن أوروبا، فتقطع عليها الطريق قبل أن تبدأ السير فيه.
وفي الجانب الآخر من المشهد، تأتي تركيا، تلك الدولة التي تقف بين الشرق والغرب، وتطمح لأن تكون الجسر الذي تعبر منه خيرات الغاز من الشرق إلى أوروبا. تركيا ليست أقل طموحًا من روسيا، فهي تسعى بكل ما أوتيت من حيلة أن تجعل من نفسها الممر الرئيسي لهذا الغاز، فتتحكم في شريانه وتنتفع منه كما يشاء لها الحظ والمكان. وما زاد في طموحها، أنها تسعى لتوثيق روابطها مع العراق، لتستخدم أراضيه كجسر لهذا المشروع الكبير، فتكون بذلك قد ضيّقت الخناق على إيران وجعلتها محاصرة من جهة أخرى.
وهكذا، تجد إيران نفسها في مأزق ليس بالهين، محاطة بين روسيا الطامعة وتركيا الطموحة، وكلاهما يسعى لعرقلة مشاريعها وتوسعاتها في هذا الميدان الذي بات اليوم ميدانًا للصراع الأكبر.
إنّ التحديات التي تواجهها إيران اليوم ليست من قبيل السهولة ولا من صنف المخاطر العابرة. فإيران تجد نفسها محاطة بين معادلات داخلية وخارجية، كل واحدة منها أشد تعقيدًا من الأخرى. فمن جهة، تقف إيران على عتبة اختيار عسير، إذ يتعين عليها أن توازن بين الحفاظ على علاقتها الاستراتيجية مع روسيا، التي طالما كانت حليفًا لها في مواجهة الضغوط الغربية، وبين طموحها الكبير في تصدير الغاز إلى أوروبا. هذا الطموح الذي لا يخلو من صعوبات، تحيط به الألغام السياسية والاقتصادية من كل جانب، وهو ما يجعل مسيرتها محفوفة بالمخاطر.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن تركيا، تلك الدولة التي تسعى دائمًا لتحقيق مصالحها الإقليمية، تشكل تحديًا آخر أمام طموحات إيران. فإيران تنظر إلى نوايا تركيا بعين الريبة، وترى فيها منافسًا قد يُعطّل مساعيها، أو على الأقل يسعى لتقويض توسعاتها الاقتصادية. فتركيا، وإن كانت تتظاهر بالصداقة والمصالح المشتركة، إلا أن طموحاتها الإقليمية قد تقف حجر عثرة أمام تحقيق أهداف إيران.
لكن التحديات التي تواجه إيران لا تقتصر على المنافسة مع تركيا أو الحذر من نواياها، بل إن التحدي الأكبر يأتي من الغرب، حيث تتربص الولايات المتحدة وإسرائيل بكل حركة تقوم بها إيران في المنطقة. فهذه القوى، ومعها حلفاؤها الإقليميون، تسعى جاهدة لإفشال أي مشروع إيراني يهدف إلى السيطرة على موارد الطاقة في الشرق الأوسط. فالأمر ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل هو صراع وجودي على النفوذ والهيمنة.
وما من مثال أوضح على هذا الصراع من النزاع على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية في العراق، مثل الأنبار وجرف الصخر. فهذه المناطق تعدّ كنوزًا مدفونة في قلب الشرق الأوسط، وفيها من احتياطيات النفط والغاز ما يغري أي قوة إقليمية أو عالمية. ولذا، فإن السيطرة عليها تعني السيطرة على خيوط اللعبة في هذه المنطقة الحساسة.
صراع القوى الكبرى: الهيمنة على مستقبل الطاقة والسياسية في المنطقة
أما إذا نظرنا إلى المشهد الأوسع، فإن الحرب في أوكرانيا قد قلبت موازين الطاقة رأسًا على عقب. فقد وجدت أوروبا نفسها تبحث عن بدائل للغاز الروسي، بعد أن كانت تعتمد عليه اعتمادًا يكاد يكون كليًا. وهنا، تبرز إيران كأحد البدائل الممكنة، فمواردها الغازية قد تكون الجواب على معضلة الطاقة الأوروبية. لكنّ هذا الأفق الجديد، وإن كان يفتح أبوابًا من الفرص لإيران، إلا أن الطريق إليه محفوف بالعقبات.
فالعقوبات الغربية المفروضة على إيران، والضغوط الاقتصادية التي تلاحقها من كل حدب وصوب، تجعل من الصعب عليها أن تستفيد استفادة كاملة من هذه الفرصة. إذ كيف لها أن تصدّر الغاز إلى أوروبا في ظل العقبات التي تضعها القوى الغربية في طريقها؟ وكيف لها أن تنافس في سوقٍ تهيمن عليه روسيا وتركيا، وهما قوتان لا تقلان طموحًا عنها؟
وفي خضم هذه الأحداث، نجد أن تركيا تسعى، بذكاءها المعروف وطموحها الواسع، لأن تستفيد من هذه التحولات الجيوسياسية. فموقعها الجغرافي، الذي يجعلها بوابة بين الشرق الأوسط وأوروبا، يمنحها ميزة لا يمكن تجاهلها. وتركيا تعلم جيدًا أن الغاز الإيراني، إذا مرّ عبر أراضيها إلى أوروبا، سيعزز من مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. لكنها في الوقت نفسه، تدرك أن التنافس مع إيران سيزداد حدة، وأن الصراع على هذا الممر الحيوي قد يتحول إلى مواجهة اقتصادية وسياسية محتدمة.
ثم لا نغفل عن أن تركيا تسعى أيضًا لتوسيع نفوذها في العراق، وتحديدًا في المناطق السنية، مثل الأنبار، التي تُعدّ غنية بالموارد الطبيعية. هذه المناطق، التي لطالما كانت مسرحًا للنزاعات الإقليمية والدولية، قد تصبح بوابة جديدة لتدفق الغاز والنفط إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. ولذا، فإن الصراع على هذه المناطق ليس صراعًا بين دولٍ فحسب، بل هو صراع على مستقبل الطاقة والاقتصاد في الشرق الأوسط.
في النهاية، نجد أن التحديات التي تواجه إيران في هذا السياق تتطلب منها أن توازن بين مصالحها الاستراتيجية وتحالفاتها الإقليمية، وبين طموحاتها الاقتصادية التي تسعى لتحقيقها. فكل خطوة تخطوها في هذا المسار قد تقودها إلى مكاسب كبيرة، أو تُعرّضها لخسائر جسيمة. وفي كلتا الحالتين، يبقى الصراع على موارد الطاقة في الشرق الأوسط من أعقد الصراعات التي شهدتها المنطقة، وأشدها تأثيرًا على مستقبلها.
إن التحولات الجيوسياسية التي تضرب أطنابها في المنطقة لا تقف عند حد التنازع على موارد الطاقة، بل تمتد لتشمل إعادة صياغة الخريطة السياسية وتحالفاتها الإقليمية والدولية. فبعد أن اشتعل فتيل الصراع السوري، ظهرت إيران كقوة قادرة على تعزيز نفوذها عبر تحالفها مع روسيا والنظام السوري، وهو الأمر الذي بعث القلق في صدور دول الخليج العربي، التي ترى في إيران خصمًا يهدد أمنها القومي ومستقبلها السياسي.
وليس ببعيد عن هذا السياق، التدخل الإيراني في سوريا الذي قلب موازين القوى في المنطقة، إذ مكّن إيران من الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، بل وتثبيت أقدامها في مواقع لم تكن تحلم بها. غير أن هذه المكتسبات لم تَمُرّ مرور السحاب؛ فقد أثارت غضب القوى الإقليمية الأخرى التي سارعت لإعادة ترتيب حساباتها، لعلها تُعيد ضبط معادلة التوازن في الشرق الأوسط.
أما إذا نظرنا إلى أفق أوسع، نجد أن الصراع على الطاقة في هذه الأرض لم يعد يقتصر على كونه معركة اقتصادية تتنافس فيها القوى العالمية، بل اتخذ بعدًا أعمق وأشد خطورة. فصار ميدانًا لصراع على الهوية والمكانة والمصير، حيث كل قوة تطمح لأن تجعل من نفسها سيدة الموقف وحاكمة المقدرات. فالولايات المتحدة وروسيا، وأوروبا من خلفهما، تسعى كل منها بطرقها الخاصة لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في هذه المنطقة، ولا عجب في ذلك؛ فهذه الأرض قد صارت محورًا لتنافس القوى العالمية الكبرى.
وفي هذا الإطار، جاء خطاب خامنئي ليضع النقاط على الحروف، وليؤكد على أن السبيل الأمثل لمواجهة هذه التحولات هو الوحدة الإسلامية. فإيران ترى في دعم حركات المقاومة مثل حزب الله استثمارًا ليس لمجرد الدفاع عن الأرض أو الموارد، بل لحماية كرامة الأمة الإسلامية نفسها. إذ بات واضحًا أن هذا الصراع على الطاقة في الشرق الأوسط ليس إلا جزءًا من صراع أوسع على الهيمنة والنفوذ الإقليمي والعالمي.
فالطاقة لم تعد مجرد وقود يدير المصانع ويشغل المركبات، بل أصبحت أداة في أيدي القوى الكبرى لتحقيق السيطرة السياسية، والمكانة الاقتصادية، والهيمنة الثقافية. وهكذا، لا يمكن أن يُحسم هذا الصراع إلا إذا توحدت الأمة الإسلامية ووقفت صفًا واحدًا في مواجهة القوى التي تطمع في خيراتها وتريد أن تجعل من أرضها ميدانًا لمعاركها.
بهذا الفهم العميق، نرى أن صراع الطاقة لم يعد مسألة أنابيب النفط أو مصادر الغاز فحسب، بل هو صراع على مستقبل الأمة، وصراع على من يقود ومن يُقاد، على من يرسم الطريق ومن يسير عليه. ولن يُكتب لهذا الصراع نهاية إلا حين تعي الأمة الإسلامية أنها بحاجة إلى توحيد جهودها، لتكون هي التي تُقرر مصيرها، بدل أن تكون ساحة مفتوحة لمطامع الآخرين.