back to top
المزيد

    واحة البيان

    الانتخابات الأمريكية: صعود السادية السياسية وآثارها على الشرق الأوسط

    أحمد حسن / باحث وأكاديمي

    كلما دارت عجلة الانتخابات في الولايات المتحدة، يعاود السؤال نفسه الظهور: ما مدى تأثير هذه الانتخابات على واقعنا في الشرق الأوسط؟ ففي هذه البقعة التي نالت من الحروب والنزاعات نصيبًا وافرًا، تشتعل النيران في صراعات تتقاذفها أمواج السياسة الكبرى، وأصبح المواطنون الأبرياء، دون ذنب، وقودًا لمعارك تُخاض بأفكار الهيمنة وقيم الديمقراطية المزيفة. فها هي المنطقة، منذ تلك الهجمات المروعة في 11 سبتمبر، تُجرّ إلى متاهات من الفوضى، حيث أصبح الحديث عن الأمن القومي ذريعةً للتدخلات العسكرية التي لا تسفر إلا عن دمار يفوق الوصف.

    الشرق الأوسط: ساحة الصراعات الانتخابية

    ولما كان الشرق الأوسط محطّ أنظار صانعي السياسات في واشنطن، أضحى ساحة لتجريب القوى الكبرى خططها ومشاريعها الانتخابية. كلما اقترب موعد الانتخابات، تزداد التوترات، وتشتعل النيران في غزة ولبنان كفعلٍ ينمّ عن استغلال رخيص لدماء الشعوب. وكم يبدو الشعب الأمريكي غافلاً عن الآلام والمعاناة التي تنتجها تلك السياسات الفاشلة، والتي إن أُريد بها الخير، كان حقًا نادرًا، وإن أُريد بها الشر، كان جليًّا. ومن هنا، تتجلى الصورة الكئيبة حيث تعتمد السياسة الأمريكية على دعم أنظمة قمعية، كدعمها لإسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين، مما يعمق من حالة عدم الاستقرار ويزيد من وطأة المآسي.

    إن السياسة الانتخابية الأمريكية تمثل عاملاً مركزيًا في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط، إذ يتسابق المرشحون لإبراز مواقفهم المتصلبة تجاه القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. على الرغم من أن الخطابات الانتخابية تُظهر عزمًا على تحقيق السلام، فإن جوهرها يسعى لتغذية الهيمنة الأمريكية من خلال إثارة الفتن والنزاعات. ويظهر ذلك جليًا في تصرفات المرشحين تجاه الأحداث المتفجرة في غزة ولبنان؛ فكلما أُشعلت الحرب في غزة، يأتي ذلك كدليل على الدفاع عن إسرائيل، الحليف الاستراتيجي، لجذب دعم اللوبي الصهيوني واستدرار أصوات الناخبين. وفي لبنان، يُعزِّز الدعم الأمريكي لفرقاء السياسة حالة الانقسام، مما يفتح المجال للتدخلات الأجنبية.

    وإذا جاز لنا أن نصف السياسة الخارجية الأمريكية، في هذه الأثناء، بالسادية السياسية، فلأن القادة يستمتعون بمشاهدتهم لنتائج قراراتهم المدانة، دون أدنى اكتراث للضحايا الأبرياء. كما انتقد الجاحظ حكامًا سعى بعضهم للمجد عبر سفك الدماء، نجد اليوم أن أولئك القادة الأمريكيين يسيرون على ذات الدرب. بينما يتغنون بحقوق الإنسان والحريات، لا يترددون في إشعال الحروب لتحقيق أهدافهم المزعومة. إن هذا السلوك السادي لا يقتصر على السياسة الأمريكية، بل يمتد ليشمل القوى الغربية التي تتعامل مع الشرق الأوسط كساحة اختبار لسياساتها العسكرية والاقتصادية. شعوب المنطقة، إذن، ليست سوى أرقام وإحصائيات، تُستباح إنسانيتها تحت وطأة الأرقام.

    الهيمنة الجيوسياسية: قلب العالم

    جغرافياً، يشكل الشرق الأوسط قلب النظام العالمي، حيث يقع في مفترق طرق التجارة والطاقة. في هذا السياق، تبرز نظرية هالفورد ماكيندر “قلب العالم”، التي تُبيّن أن من يسيطر على هذه المنطقة يضمن تفوقه العالمي. لذا، نجد القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تسعى بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على نفوذها من خلال التدخلات العسكرية والسياسية، مما يهدد استقلال دول المنطقة. الاعتماد على الدعم الغربي في تسليح الجيوش أو دعم الاقتصاد يجعل من العسير على دول الشرق الأوسط تحقيق استقلالها السياسي، وعندما تحاول بعض الدول الفكاك من هذه الهيمنة، تواجَه بمقاومة من القوى الكبرى، التي تتلاعب بالأحداث وفق مصالحها.

    ومع مرور الوقت، بدأ يتصاعد دور روسيا والصين في الشرق الأوسط، في محاولة لتوسيع نفوذهما على حساب الهيمنة الغربية التقليدية. لقد كان التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا عام 2015 بمثابة نقطة تحول، حيث رسخت موسكو وجودها في المنطقة، وبرزت كقوة لا يمكن التغاضي عنها. تسعى روسيا إلى تحقيق استراتيجية “التعددية القطبية”، مما يتيح لها منافسة الولايات المتحدة عبر دعم الأنظمة الحليفة، كالنظام السوري. لكن هذا الدور يعكس أيضًا حالة من التوتر والصراع الجيوسياسي. أما الصين، فتسعى إلى تعزيز وجودها من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، حيث تُعدّ البنية التحتية وتنمية الاقتصاد هدفين رئيسيين. ورغم أن دور الصين قد لا يكون بارزًا كما هو الحال مع روسيا، فإنها تطمح إلى ترسيخ نفوذها السياسي والاقتصادي بشكل تدريجي، مما يُدخلها في منافسة غير مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة مع تصاعد التوترات العالمية بين القوتين.

    نحو نموذج جديد للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط

    لكي ينفك الشرق الأوسط من دائرة التبعية، يستلزم الأمر تبني سياسات إقليمية جديدة تركز على التعاون بين الدول. إن الوحدة الإقليمية ليست مجرد خيار، بل هي ضرورة ملحة لمواجهة التحديات التي تطرحها التدخلات الغربية والشرقية. يمكن أن تُشكل التحالفات القائمة على المصالح المشتركة جدارًا صلبًا ضد التدخلات الأجنبية. إن إدراك الدول لأهمية الوحدة الداخلية يُعدّ السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار، فالتفكك والانقسام يعكسان حالة من الضعف تسهل على القوى الكبرى استغلال المنطقة. رغم أن تحقيق الوحدة الإقليمية يبدو تحديًا جسيمًا، إلا أن هناك دلائل على إمكانية إنجاز ذلك. تواجه دول الشرق الأوسط تحديات مشتركة، مثل الإرهاب والفقر وتغير المناخ، مما قد يحثّها على التعاون والتنسيق لمواجهتها، ويُعزز فرص الوحدة. بل إن الضغوط الخارجية الناتجة عن التدخلات الأجنبية قد تدفع الدول نحو الوحدة، إذ عندما تتعرض لدوافع مشتركة من قوى خارجية، قد تصبح الوحدة الإقليمية هي السبيل لتعزيز الأمن القومي. ومع ذلك، فإن التحديات قائمة. فالصراعات الداخلية وتنافسات القوى الإقليمية، مثل النزاع بين إيران والسعودية، تزيد من صعوبة تحقيق هذا الهدف. لكن بالاستناد إلى الفهم العميق للجغرافيا السياسية، يمكن تطوير استراتيجيات مشتركة تعزز من فرص الوحدة وتحقق الاستقرار.

    وفي النهاية، لن تنجح دول الشرق الأوسط في التحرر من هيمنة القوى الكبرى ما لم تحقق تماسكًا داخليًا. يتطلب ذلك بناء تحالفات جديدة قائمة على المصالح المشتركة والاستقلالية. وإذا ما وُفّق لهذه الوحدة، ستستعيد المنطقة دورها المحوري في النظام العالمي، بعيدًا عن الاستغلال الخارجي. ومن ثم، تصبح الوحدة الإقليمية ليست غايةً فحسب، بل ضرورة لضمان مستقبل أفضل لشعوب الشرق الأوسط، بعيدًا عن الهيمنة والنزاعات.

    اقرأ ايضاً