back to top
المزيد

    واحة البيان

    العيد الوطني للعراق؛ جُرْعَةُ عَقلانِيّةٍ في مُفْتَرَقُ الطُّرُق

    د. عقيل محمود الخزعلي

    في مثل هذا اليوم ٣ / ١٠ من العام ١٩٣٢، شهد العراق انتقاله من كونه دولة خاضعة (للانتداب) البريطاني الى دولة ترنو الى وضع أقدامها على أعتاب : ( الاستقلال والسيادة والاقتدار) ، وبغض النظر عن الظروف والملابسات التي صاحبت هذه الانتقالة وما تلاها ، وبكل التبعات والاثار والتداعيات التي لاصقت عملية الصيرورة للدولة، الا ان السؤال الكبير ما زال بحاجة الى اجابات موضوعية منزوعة الانحياز من الزهو الفارغ والنرجسية الواهمة والنكرانية المُعتلّة والسطحية القاتلة، الا وهو “هل استطاع العراقيون فعلاً تشييد دولة ناجزة مقتدرة تنتمي الى العصر الحديث بكل تغيراته وتطوراته وقفزاته؟” ، وما يستتبعه ذلك من مظاهر ومؤشرات وارقام وإحصاءات تُجيب على درجة الرصانة والقُدرة في وظائف الدولة الحديثة التي تصبو الى تحقيق: (الامن الشامل والعدالة المتكاملة والازدهار المستدام) من خلال (الحُسن والجودة  والاتقان والابداع والابتكار) ادارة الركائز والبُنى والتجلّيات في القضايا الكُبرى: (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية والثقافية والمعنوية والمعرفية والمؤسسية والتقنية. الخ)، فضلاً عن ما يسبق كل ذلك من عمليات تأهيل الفرد والمجتمع للقيام بتنجيز الاستحقاقات الوطنية التي تستدعيها كل عمليات الانتقال والتحوّل المستندة على برامج اقتلاع (اليأس والإحباط والقنوط والسذاجّة والبداوة والنشاز) – الفعلي والمُفتَعَل -، والانخراط في مشروعات بناء (الهوية الجامعة والتفاؤل الواثق والنَّماء المستمر).

    ان عملية النقد المسؤول لماضينا وراهننا الوطني بكل ملابساته وتداعياته ، وما يُضاف إليه من انقلابات مفصلية في الاوضاع الاقليمية والدولية المضطربة، والثورات العلمية والرقمية والذكاءات الاصطناعية، كُلّ ذلك يشي اننا أمام منعطفات خطيرة تستدعي الركون الى منطق المصارحة في نقد الذات بجميع اشكالها وصورها: (الفردية والجماعية، القيادية والمؤسسية) واكتشاف نقاط:(الوهن والفجوات البُنيوية والفوقية، والتهديدات والتحديات الداخلية والخارجية، ومصفوفة القوة والقدرات الشاملة والفرص المُتاحة)، ومن ثم  الانبراء الى رسم معالم خريطة بناء جديدة لإعادة صياغة:( الوطن الذي نبتغي، والدولة التي نرجو، والشعب الذي نريد، والغايات التي نطمح، والاهداف التي نحقق، والوسائل التي نستحضر والمناهج التي تحكم، والمعايير التي تضبط، والموارد التي تُنتِج، والادوات التي تُراقب، والعقول التي تفكر وتخطط وتراقب وتُقيّم وتُحَسِّن..).

    لقد بات من المفروغ منه ان إدارة الدولة الحديثة وضمانات قوتها وازدهارها يستدعي وجود عقليات (تنظيرية وتنفيذية) تلتزم اشتراطات:(العقلانية البراغماتية النفعية العملانية المرنة)، وتتحلّى (بأقصى درجات الحياد العلمي الموضوعي) لتحقيق أعلى قدر من (الامن والانتاجية والمزايا التنافسية المستدامة) والتي تستجيب لتطلّعات المواطنين في الحصول على أرقى جودةٍ للحياة الممكنة والعيش الكريم والسلام الناجز.

    ان استحضار العقلانية المدنيّة الشاملة للدولة تستدعي الأصول الاستنادية لها في جميع: (المجالات والمستويات والقطاعات)، وأهمها:

    ١-العقلانية القانونية والمؤسساتية: التي تتطلب:

    أ-التزام القانون: لأن إدارة الدولة يجب أن تكون قائمة على سيادة القانون واحترام الدستور، مما يضمن العدل والمساواة أمام القانون، ولكن تبقى الحاجة مُلحّة الى تحويل الدستور العراقي من كونه دستوراً جامداً ساكناً الى دستور مرن ومتكيّف ومستجيب.

    ب- الفصل المرن بين السلطات: ضمان توازن وتكامل واستقلالية السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) وبما يُعزز من الاستقرار المؤسسي، ويمنع الاستبداد والتجاوز على الحقوق، ويحقق وظائف الدولة الحديثة.

    ٢-العقلانية الاقتصادية: والتي تتطلب:

    أ- إدارة الموارد بشكل مستدام: العقلانية تتطلب إدارة الموارد الاقتصادية، كالنفط والمعادن، بشكل مستدام مع تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط كدخل وحيد، وهو ما يتوجب بناء سياسات اقتصادية ومالية ونقدية تركز على تنمية القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والتقنية والرقمية الذكية لتوفير مصادر دخل متعددة، قائمة على الريادة، والابتكار، والتوازن، والاستقرار.

    ب- التخطيط الاقتصادي طويل الأجل: من الضروري أن يكون هناك رؤية اقتصادية طويلة الأمد، يتم من خلالها تحقيق نمو شامل وتنمية بشرية تلبي احتياجات المواطنين.

    ٣-العقلانية الاجتماعية والسياسية: والتي تتطلب:

    أ- الحوار والشمولية: حيث تتطلب الإدارة العقلانية في دولة متعددة الأعراق والطوائف كالعراق تفعيل آليات الحوار الوطني والشراكة الحقيقية بين كافة مكونات المجتمع على اسس دستورية وديموقراطية حديثة، مع احترام حقوق الأقليات وضمان تمثيلها.

    ب- المشاركة السياسية: توفير بيئة آمنة ومستقرة تتيح للمواطنين المشاركة السياسية الفعّالة، من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وتطوير المؤسسات الديمقراطية، وتحقيق الشفافية والمساءلة.

    ٤-العقلانية الإدارية والتنظيمية:

    أ- الحوكمة الرشيدة: وهنا تعتمد إدارة الدولة على الحوكمة الرشيدة من خلال نظم الشفافية، المحاسبة، والمسؤولية لضمان كفاءة الأداء الحكومي، وتحقيق مصلحة المواطن.

    ب- تبسيط الإجراءات: تسهيل الإجراءات البيروقراطية واستخدام التكنولوجيا في تقديم الخدمات الحكومية، مما يساهم في تعزيز كفاءة الأداء وزيادة رضا المواطنين وتحقيق الاهداف التنموية.

    ٥- العقلانية في القيادة.

    ٦- العقلانية في ادارة الاولويات، والتسويات، والتناقضات، والخلافات.

    ٧- العقلانية في الادارة الامنية والسياسة الخارجية والدبلوماسية.

    المبادئ العقلانية الأساسية المطلوبة

    اولاً: سيادة القانون: يجب أن تكون كافة الإجراءات الحكومية، بما في ذلك السياسات والتشريعات، متوافقة مع الدستور والقوانين القائمة، حيث ان سيادة القانون تمنع التعسف وتضمن تحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين.

    ثانياً: الاستدامة: تبني مبدأ الاستدامة في كافة السياسات الحكومية لضمان استمرارية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للأجيال القادمة. اننا بحاجة إلى استراتيجيات اقتصادية تشمل تنمية بديلة للقطاعات المتضررة وتنويع مصادر الدخل الوطني.

    ثالثاً: التفكير والتخطيط الاستراتيجي: وضع استراتيجيات تنموية طويلة الأجل، تركز على تطوير البنية التحتية، التعليم، الصحة، وتحقيق الأمن الغذائي. ان على مؤسسات الدولة لِزام تبني تخطيطٍ يتماشى مع التحديات المحلية والعالمية، مع التركيز على تحقيق أهداف التنمية المستدامة وفقاً للأسبقيات الوطنية.

    رابعاً: العدالة الاجتماعية: اعطاء الاولوية لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال توفير فرص متساوية لجميع المواطنين في الحصول على الخدمات الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية، كما ينبغي العمل على تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الفئات المختلفة في المجتمع العراقي.

    خامساً: محاربة الفساد: يشكّل الفساد في العراق تهديداً وتحديًا رئيسيًا، ومكافحته هي شرطٌ أساس لتحقيق الاستقرار والتنمية، من خلال تشريعات ومؤسسات وسياقات أكثر جديّة، وفعّالية وجدوى وانتاجية.

    سادساً: التوازن بين المركزية واللامركزية: ان تبني نظام متوازن بين المركزية واللامركزية، مع منح السلطات المحلية والاقليمية قدرًا مناسبًا من الصلاحيات والموارد لإدارة شؤونها، مما يعزز من التماسك الوطني ويقلل من الشعور بالتهميش في المحافظات المختلفة، ووفقاً للدستور والمصالح الوطنية العليا.

    سابعاً: الاستثمار في رأس المال البشري: ان بناء رأس مال بشري قوي هو عنصر أساسي في مواجهة التحديات التنموية وتعزيز الإنتاجية، وهنا يتوجب تنمية المهارات والقدرات البشرية من خلال التعليم والتدريب المهني، وتطوير مناهج تعليمية تركز على الابتكار والإبداع.

    ثامناً: التعاون الإقليمي والدولي: تعزيز التعاون مع الدول المجاورة والاقليمية والمجتمع الدولي لتحقيق التنمية المستدامة، والاستفادة من المساعدات والخبرات الدولية في إعادة بناء البنية التحتية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والتنموي.

    اننا اليوم – أكثر مما مضى – ونتيجة للأحداث الدراماتيكية إقليمياً ودولياً، والتي باتت تُهدد: (التنمية والامن والاستقرار والوجود)، بحاجة وجوبية الى مصارحة ومصالحة مع ذواتنا وبيئاتنا لنتفادى المزيد من التصدّعات والانهيارات، وان كُنّا قد تأخرنا لأنه ” صِلْ مُتأخراً، خيرٌ من ان لا تَصِل” ولأن ” الأقدار صناعة الاختيار”، فهل سنتمكن من النجاح في هذا الاختبار العاصف؟! نعم، نستطيع إذا اقتنعنا ورَغِّبنا وفكّرنا وأردنا ونفذّنا وقَوَّمْنا!، جواب برسم الوعي، والإرادة، والاخلاق، والاستقلالية!

    اقرأ ايضاً