د. صلاح عبد الرزاق

القانون الأساسي العراقي (دستور عام 1925 الدائم)

كان هذا الدستور هو أول دستور يعرفه العراقيون بعد الاحتلال البريطاني وقد مر مشروع هذا الدستور بعدة مراحل ليأخذ شكله النهائي. فأول مسودة له وضعت عام 1921 من قبل عدد من الموظفين البريطانيين في العراق من ضمنهم مستشار وزارة العدلية العراقية المستر دراور والمستر فيجل دافيس والمقدم يونك. بعد ذلك في آذار عام 1922 قام الملك فيصل الاول بعرض المشروع على لجنة عراقية مؤلفة من وزير العدلية ناجي السويدي ووزير المالية ساسون حسقيل وسكرتير الملك رستم حيدر. وقد قامت هذه اللجنة بإجراء بعض التعديلات على هذا المشروع. ثم تم تنقيحه من قبل وزارة المستعمرات البريطانية في 16 نيسان عام 1922. ليعاد مرة اخرى الى بغداد ليقرر مجلس الوزراء بعد ذلك عرضه على لجنة مشتركة عراقية بريطانية تضم وزير العدلية ناجي السويدي والمستر دراور مستشار وزارة العدلية ليخضع المشروع للتنقيح مرة أخرى من قبل وزارة المستعمرات البريطانية. بعد ذلك خضع مشروع الدستور للمناقشة في مجلس الوزراء وإجراء توجيهات الملك عليه وبعد انتخاب أعضاء المجلس التأسيس العراقي في 25 شباط عام 1924 ابتدأ المجلس بتأليف لجنة من أعضائه لدراسة مشروع الدستور وقد روعي في تأليف اللجنة بضمنها عضوا من كل لواء من ألوية العراق. وفي 14 حزيران عام 1924 بدأت مناقشات الدستور والتي كانت مقيدة بنصوص المعاهدة البريطانية العراقية واستغرقت المناقشات ثماني عشرة جلسة انتهت في 10 تموز عام 1924 بموافقة المجلس التأسيس على الدستور الذي بدأ يعرف باسم القانون الأساسي العراقي باعتبار أن كلمة دستور غير عربية ولم تتم مصادقة الملك عليه ولم ينشر في الجريدة الرسمية حتى آذار عام 1925.[1]

يضم أول دستور عراقي 123 مادة موزعة على عشرة أبواب ومقدمة. وهو دستور يضم الكثير من المواد الشاذة وغير المتعارف عليها في دساتير الدول الديمقراطية. فالمادة التاسعة عشرة تقول (سيادة المملكة العراقية الدستورية للأمة، وهي وديعة -أي السيادة- الشعب للملك فيصل بن الحسين، ثم لورثته من بعده). وهذا مبدأ شاذ حيث إن السيادة تبقى من خصائص الأمة التي هي مصدر السلطات. وهذه الفقرة غير موجودة إلا في الدستور العراقي.

لقد تم تقليص صلاحيات المجلس النيابي لصالح الحكومة. فقد زيدت سلطة القوة التنفيذية مثلاً في:

– إمكان إصدار مراسيم تكون لها صفة قانونية، في حالة عدم وجود المجلس مجتمعاً (الفقرة 3 المادة26)

-تعيين أعضاء مجلس الأعيان من قبل الملك دون الشعب (الفقرة 6 المادة 26)

-إمكان عدم تصديق الملك على القوانين التي يشرعها البرلمان. (الفقرة 3 المادة 63)

أما الملك فلم يكن ملكاً شكلياً، بل كان يملك صلاحيات عديدة منها:

-حق تعيين أعضاء مجلس الأعيان البالغ عددهم عشرين شخصاً، ويقبل استقالتهم من مناصبهم (الفقرة 6 من المادة 31)

-حق تأجيل افتتاح المجلس النيابي وحلّه (الفقرة 2 من المادة 26)

-الموافقة على القوانين التي يشرعها المجلس النيابي وبدون تصديقه لا تكتسب الصفة القانونية (الفقرة 1 من المادة 26)

-حق اختيار رئيس الوزراء، وبناءً على ترشيح رئيس الوزراء، يقوم الملك بتعيين الوزراء ويقبل استقالتهم من مناصبهم (الفقرة 5 من المادة 26)

-بناءً على اقتراح الوزير المسؤول، يعيّن الملك ويعزل جميع الممثلين السياسيين، والموظفين الملكيين، والقضاة والحكام، ويمنح الرتب العسكرية، ومن حقه منح الأوسمة والألقاب وغيرها من شارات الشرف (الفقرة 7 من المادة 26)

-الملك هو القائد العام للقوات المسلحة. وهو يعلن الحرب بموافقة مجلس الوزراء (الفقرة 8 من المادة 271).

-لا ينفذ حكم الاعدام إلا بتصديق الملك، وللملك أن يخفف العقوبات، أو يرفعها بعفو خاص (الفقرة 10 من المادة 26)

-الملك مصون وغير مسؤول (المادة 25).

-للملك السلطة، بعد موافقة مجلس الوزراء ، على إعلان الأحكام العرفية بصورة مؤقتة في أنحاء العراق التي قد يمسها خطر القلاقل والغارات ( المادة 120)

الإسلام في دستور 1925 الدائم

مثل أغلبية الدول المسلمة الحديثة تأسست المملكة العراقية على أساس (القومية العراقية) أو الجنسية العراقية أو المواطنة العراقية. فهي الرابط القانوني والطبيعي الذي يربط الأفراد بالدولة، وليس الانتماء الديني أو المذهبي. فالعراق بلد تعددي يضم عدة قوميات وأديان ومذاهب تختلف في لغاتها وشعائرها، وطقوسها، وعاداتها الثقافية، والدينية.

ولما كان العراق بلداً ذا أكثرية مسلمة، رغم وجود أقليات دينية كبيرة آنذاك كاليهودية والمسيحية تمتلك القوة والتأثير في الاقتصاد والتجارة والعلاقات الوثيقة مع الدول الأجنبية، لكن الملك فيصل الأول، الذي جاء للعرش بحكم كونه عربياً مسلماً، وهما الصفتان اللتان وردتا في ترشيحه من قبل المرجعية، حاول إسباغ مملكته بهذا الطابع انسجاماً مع مبادئ الثورة العربية التي قام بها والده الشريف حسين، وتقارباً مع دول الجوار العربي.

تنص المادة (13) من دستور 1925 على: الإسلام دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العام)).

يتضح من المادة أعلاه ابتدائها بعبارة تقليدية (الإسلام دين الدولة الرسمي) التي وردت بلا إشارات لدور الإسلام في هذه الدولة، لا في القوانين ولا مدى الالتزام بأحكامه في السياسة العامة أو مؤسسات الدولة ودوائرها. فجاءت العبارة بلا مضمون، بل بقيت مجرد عبارة إنشائية تستخدمها دساتير الدول العربية عموماً.

والأمر الآخر الذي أكدت عليه المادة (13) هو حرية إقامة الشعائر الدينية والمذهبية للشيعة والسنة. إذ تعدها محترمة لا تمس، وضمنت لجميع أتباع المذاهب الإسلامية حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الشعائر من صلاة جماعة وإقامة صلاة الجمعة، وإنشاء الجوامع والمساجد ، وإقامة المجالس الحسينية وحفلات المولد النبوي وغيرها. وكلها محترمة ومحمية بقوة الدستور ما لم تخالف النظام العام أو مخلة بالآداب المتعارف عليها.

المحاكم الدينية

يأتي تأسيس محاكم متنوعة ومختصة من مختصات العهد الملكي والتي جاءت لتلبية حاجات مجتمعية. وهذه المحاكم تختص بجميع الأديان والمذاهب، تصدر قراراتها وأحكامها حسب الفقه الذي تعود له. تنص المادة (69) من الدستور على:

 تقسم المحاكم إلى ثلاثة أصناف:

1 ـ المحاكم المدنية.

2 ـ المحاكم الدينية.

3 ـ المحاكم الخصوصية

وتحدد المادة (75) أنواع المحاكم الدينية وواجباتها حيث تنص على:

تقسم المحاكم الدينية إلى:

    1 ـ المحاكم الشرعية.

    2 ـ المجالس الروحانية الطائفية

فالمحاكم الشرعية حسب المادة (76) تختص بالمسلمين فقط لأنها وحدها التي ((تنظر في الدعاوى المتعلقة بأحوال المسلمين الشخصية، والدعاوى المختصة بإدارة أوقافهم)).

وتوضح المادة (77) من الدستور مرجعية هذه المحاكم وصفات القضاة المعينين فيها فتقول ((يجري القضاء في المحاكم الشرعية وفقاً للأحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية، بموجب أحكام قانون خاص، ويكون قاض من مذهب أكثرية السكان في المحل الذي يعين له، مع بقاء القاضيين السنيين والجعفريين في مدينتي بغداد والبصرة)).

أما العراقيين غير المسلمين فقد خصص الدستور محاكم خاصة لليهود والمسيحيين فقط دون بقية الأقليات الدينية كالصابئة والإيزديين. وهي تشكيلات سميت بـ (المجالس الروحانية الطائفية) ولها صلاحيات إصدار أحكام لها قوة المحاكم العادية. إذ تنص المادة (78) على:

((تشمل المجالس الروحانية الطائفية: المجالس الروحانية الموسوية، والمجالس الروحانية المسيحية، وتؤسس تلك المجالس، وتخول سلطة القضاء بقانون خاص)).

وحددت المادة (79) المجالات والقضايا التي بإمكان المجالس الروحانية إصدار الحكم فيها فتقول ((تنظر المجالس الروحانية:

1 ـ في المواد المتعلقة بالنكاح، والصداق، والطلاق، والتفريق، والنفقة الزوجية، وتصديق الوصايات، ما لم تكن مصدقة من كاتب العدل، خلا الأمور الداخلة ضمن اختصاص المحاكم المدنية فيما يخص أفراد الطائفة، عدا الأجانب منهم.

2 ـ في غير ذلك من مواد الأحوال الشخصية المتعلقة بأفراد الطوائف عند موافقة المتقاضين)).

وتنظم المادة (80) إجراءات المحاكمات في المجالس الروحانية للمسيحيين واليهود. ويطلب إصدار قانون بها من مجلس النواب. إذ تنص على ((تعين أصول المحاكمات في المجالس الروحانية الطائفية، والرسوم التي تؤخذ فيها بقانون خاص، وتعين أيضاً بقانون الوراثة وحرية الوصية، وغير ذلك، من مواد الأحوال الشخصية التي ليست من اختصاص المجالس الروحانية الطائفية)).

دوائر الأوقاف

تنظم المادة (122) من الدستور دوائر الأوقاف، على أن يصدر بها قانون خاص. الجدير بالذكر أن الأوقاف الشيعية بقيت ضمن إدارة ديوان ثم وزارة الأوقاف التي تعاقب عليها مسؤولون من السنة. تنص المادة على ((تعتبر دوائر الأوقاف الإسلامية من دوائر الحكومة الرسمية، وتدار شؤونها، وتنظم أمور ماليتها بمقتضى قانون خاص)).

دستور عام 1958 المؤقت

بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 وإعلان قيام النظام الجمهوري في العراق البيان الذي أذاعه رئيس الوزراء العميد عبد الكريم قاسم (١٩١٤-١٩٦٣) مساء يوم 27 تموز 1958 وأكد فيه على انهيار القانون الأساسي. وأشار فيه إلى أن الثورة قد قررت أن تعتمد دستوراً مؤقتاً يعيّن أساس الحكم لحين تشريع دستور دائم.

وكان في 20 تموز عام 1958 قد اتصل كل من وزير الإرشاد السيد محمد صديق شنشل والسيد محمد حديد وزير الاقتصاد بالمحامي والسياسي حسين جميل. الذي عرف عنه اهتماماته في الدراسات الدستورية. ونقل له التكليف بوضع مشروع دستور يلائم متطلبات الحكم خلال فترة انتقالية. وقد اعتمد حسين جميل في عمله على أحكام الدستور المصري المؤقت لسنة 1953 ودستور سنة 1956 وكذلك دستور الجمهورية العربية المتحدة المؤقت الصادر في 5 آذار عام 1958. استغرق إعداد مشروع الدستور يومين فقط من تاريخ تكليف السيد حسين جميل بإعداده. بعد ذلك تم مناقشة مشروع الدستور المؤقت من قبل مجلس الوزراء ووافق عليه بعد إضافة مادتين له الأولى تنص على أن (الإسلام دين الدولة الرسمي) والثانية على (أن القوات المسلحة في الجمهورية العراقية ملك الشعب ومهمتها حماية سيادة البلاد وسلامة أراضيه). بعدها تم نشره في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (2) في 28 تموز 1958.

يتضمن الدستور ثلاثين مادة فقط، إضافة إلى الديباجة. يتوزع الدستور المؤقت على أربعة أبواب:

الباب الأول: الجمهورية العراقية

الباب الثاني: مصدر السلطات والحقوق والواجبات العامة

الباب الثالث: نظام الحكم

الباب الرابع: أحكام انتقالية

إن الدستور المؤقت لعام 1958 هو أول دستور يذكر القومية الكردية. وهذا طبيعي بعد الصراع المرير بين بغداد والثورة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، ورغبة الزعيم قاسم في إرساء الأمن والاستقرار في شمال العراق. إذ يعترف الدستور بالأكراد كشركاء في الوطن، ويضمن حقوقهم القومية ضمن العراق الموحد. تنص المادة (3) على: ((يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية ((

الدين في الدستور المؤقت

يرد ذكر الإسلام في المادة (4) من الدستور حيث اكتفت بالإشارة إلى أن (الإسلام دين الدولة) وبلا الرسمي التي تلحق عادة في نهاية المادة في الدساتير الأخرى. ويبدو أن هذه المادة أضيفت في وقت لاحق قبل نشر الدستور.

من الواضح أن من وضع الدستور أراد تغييب أي دور للدين في الحياة العامة. وهذا ما أدى إلى إصدار قانون الأحوال الشخصية عام 1959 الذي ألغى أحكاماً إسلامية فقهية تتعلق بقضايا الزواج والطلاق والحضانة ومنح الأنثى حصة مساوية للذكر في الإرث. الأمر الذي أثار علماء الدين من السنة والشيعة ضده.

كما تم إلغاء المحاكم الجعفرية والمجالس الروحية لليهود والمسيحيين. وصار على أتباعها العودة للمحاكم الرسمية وقضاتها أو اللجوء لفقهاء المذاهب لحل مشاكلهم ذات العلاقة بالأحوال الشخصية والأسرة.

وتضمن المادة (12) حرية إقامة الشعائر والطقوس الدينية لمختلف الأديان والمذاهب دون تسميتها. إذ نصّت المادة على حرية الأديان مصونة وينظم القانون أداء وظيفتها على أن لا تكون مخلة بالنظام العام ولا متنافية مع الآداب العامة.

قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة (دستور نيسان 1963)

في الثامن من شباط 1963 أعلن عن إسقاط النظام السياسي لثورة 14 تموز من قبل حزب البعث بقيادة العقيد عبد السلام عارف الجميلي (١٩٢١- ١٩٦٦) ومجموعة من الضباط، والإعلان عن قيام نظام سياسي يقوده المجلس الوطني لقيادة الثورة ويمارس السلطة في الجمهورية العراقية بما فيها السلطة التشريعية وقيادة القوات المسلحة وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. وباستثناء هذا البيان لم يصدر أي تنظيم دستوري للنظام السياسي الجديد حتى 4 نيسان 1963، وذلك بصدور قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة رقم 2 لسنة 1963. وعلى الرغم من عدم الإعلان عن أسلوب وطريقة إقامة هذا القانون لكن ملف هذا القانون لا يتضمن إشارة تفيد في هذا الخصوص إلا أن بعض المعلومات غير الموثقة تشير إلا أن المجلس الوطني لقيادة الثورة قد ألّف لجنة تضم بعض الوزراء قامت بوضع القانون المذكور والذي نصت المادة 18 منه على (يعتبر هذا القانون قانونا دستوريا). ونشر في الوقائع العراقية بالعدد (797) في 25 نيسان 1963.

يأتي هذا الدستور متأثراً بالظروف السياسية الداخلية والإقليمية آنذاك. إذ سعى عبد السلام عارف للارتباط بالنظام المصري بزعامة جمال عبد الناصر (١٩١٨- ١٩٧٠) والجمهورية العربية المتحدة التي قامت بين مصر وسوريا عام 1958. إذ جاءت المادة الأولى من الدستور تلفيقاً غير موفق بين مجموعة مفاهيم وأيديولوجيات لتنتج خليطاً غير متجانس من الديمقراطية والاشتراكية والإسلام والقومية العربية. تنص المادة (1) على أن: ((الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية اشتراكية تستمد أصول ديمقراطيتها واشتراكيتها من التراث العربي وروح الإسلام. والشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت ممكن مبتدئة بالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة)).

أما الإسلام فقد ورد في المادة (3) الذي أعطي مكانة له في التشريع بما سماه بدور الإسلام في القواعد الأساسية للدستور. تنص المادة على أن ((الإسلام دين الدولة والقواعد الأساسية لدستورها واللغة العربية لغتها الرسمية)).

ويكرر دستور 1963 ما ورد في دستور 1958 حول حرية الأديان وشعائرها حيث ورد في المادة (28) أن ((حرية الأديان مصونة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب)). وبقيت هذه المادة الدستورية حبراً على ورق لأن عبد السلام عارف نفسه قاد حملة ضد الشيعة والشعائر الحسينية، وخلق مناخاً من التوتر الطائفي.

ومن أغرب المواد في هذا الدستور هو تخصيص فصل لتحديد شروط رئيس الجمهورية التي تبدو أنها جاءت على مقاس عبد السلام عارف، ومنع غيره وخاصة من يحمل التبعية غير العثمانية من تولي المنصب. تنص المادة (41) على أنه يُشترط فيمن يكون رئيساً للجمهورية:

-أن يكون عراقياً

-من أبوين عراقيين

-ينتميان إلى أسرة تسكن العراق منذ سنة 1900 على الأقل

-وكانت تتمتع بالجنسية العثمانية

-وأن يكون مسلماً ملتزماً بالشعائر الدينية

-وأن لا يقل عمره عن أربعين عاماً

-وأن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية

-وأن لا يكون متزوجاً من أجنبية (إيرانية)

-وتعتبر المرأة العربية التي من أبوين وجدين عربيين عراقية لهذا الغرض.

وتتضح الدوافع الطائفية في الشروط أعلاه، فالانتماء العثماني هو الأساس وليس الوطن أو الجنسية العراقية. ولو اقتصرت الشروط أعلاه على رئيس الجمهورية لهان الأمر لكن الدستور اشترطها في رئيس الوزراء أو نائبه أو الوزير أيضاً. إذ اشترطت المادة (72) على أنه: ((يشترط فيمن يعين رئيساً للوزراء أو نائباً لرئيس الوزراء أو وزيراً أن يكون عراقياً ومن أبوين عراقيين ينتميان إلى أسرة تسكن العراق منذ سنة 1900 شمسية على الأقل وكانت تتمتع بالجنسية العثمانية، بالغاً من العمر 30 ثلاثين سنة شمسية، وأن يكون متمتعاً بكامل حقوقه المدنية والسياسية. وأن لا يكون متزوجاً بأجنبية (وتعتبر المرأة العربية التي من أبوين وجدين عربيين عراقية لهذا الغرض)).

وبذلك يصل التمييز الطائفي إلى مستوى الوزراء أيضاً، وطرد الكفوئين من تولي هذه المناصب إذا كانت أسرهم لم تسكن العراق قبل عام 1900.

 

 دستور 29 نيسان 1964 (المؤقت)

بعد 9 أشهر على انقلاب 8 شباط 1963، قام نظام سياسي آخر إثر الانقلاب العسكري الذي حدث في 18 تشرين الثاني عام 1963 بقيادة عبد السلام عارف والذي أصدر قانوناً جديداً باسم (المجلس الوطني لقيادة الثورة المرقم 61 لسنة 1964). وقد تم إعداد مشروع هذا القانون والمصادقة عليه من قبل رئيس الجمهورية والوزراء. وهذا القانون لم يتضمن سوى تنظيم هذه المؤسسة الدستورية في الوقت الذي بقيت كافة المؤسسات الأخرى دون تنظيم دستوري في ممارستها للسلطة. لذلك فقد كلف رئيس الجمهورية عبد السلام عارف وزير العدل في ذلك الوقت السيد كامل الخطيب بوضع مشروع دستور مؤقت، فقام بدوره بتشكيل لجنة من كبار الفقهاء ومن أعضاء ديوان التدوين القانوني لإنجاز المهمة وتوصلت هذه اللجنة إلى وضع مشروع دستور مؤقت اعتمدت في وضعه على دساتير بعض الدول العربية والأجنبية إلا أن مشروع هذا الدستور رفض من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. وتم تشكيل لجنة جديدة ضمت عدداً من الوزراء وبعض موظفي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء وترأسها رئيس الجمهورية بنفسه. والتي اعتمدت في عملها على دستور 25 آذار 1964 للجمهورية العربية المتحدة وبعد مناقشات طويلة وحادة تمت المصادقة على هذا الدستور المؤقت من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء في 29 نيسان 1964.

 

يشابه هذا الدستور الذي سبقه قبل عام. فالمادة الأولى تنص على أن ((الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية اشتراكية تستمد أصول ديمقراطيتها واشتراكيتها من التراث العربي وروح الإسلام

والشعب العراقي جزء من الأمانة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها في اقرب وقت ممكن مبتدئة بالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة))

وتبدو عبارة (تستمد أصول ديمقراطيتها واشتراكيتها من التراث العربي وروح الإسلام) غامضة وتلفيقيه، ولم يعمل بها. إذ لم تجر أية انتخابات أو الحديث عن بعض المفاهيم الإسلامية مثل مبدأ الشورى واختيار أهل الحل والعقد.

كما أن المادة (3) تضمنت أن ((الإسلام دين الدولة والقاعدة الأساسية لدستورها واللغة العربية لغتها الرسمية)) وهي تناقض المادة (1) التي أكدت على الاشتراكية كمذهب سياسي تسير به الدولة العراقية، وما يستلزم ذلك من تأميم الملكيات وغيرها. إذ تشير المادة (10) نية النظام في مصادرة أموال الشيعة حيث تقول ((يستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي. ولا يجوز أن يتعارض في طرق استخدامه مع الخير العام للشعب)). وهو ما تثبته قيام النظام بمصادرة التجارة الخارجية ومنع القطاع الخاص من العمل فيها. وبتية الممارسات الحكومية في تلك الفترة تعاني من تمييز طائفي مقيت يكشف بؤس الدستور.

وتؤكد المادة (12) على أن ((حق الإرث مكفول وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية)) . وهي رد على قانون 159 لسنة 1959 للأحوال الشخصية الذي أصدره عبد الكريم قاسم وساوى فيه بين إرث الإناث والذكور الذي اعتبر مخالفة صارخة للشريعة.

دستور عام 1968 المؤقت

بعد انقلاب 17 تموز عام 1968 قام حزب البعث القابض على السلطة بتكليف بعض قضاة محكمة التمييز وبعض كبار موظفي رئاسة الجمهورية حيث كان أحمد حسن البكر (١٩١٤- ١٩٨٢) رئيساً للجمهورية بإعداد مشروع دستور للنظام السياسي الجديد. وتم إصدار هذا الدستور من قبل ما يسمى مجلس قيادة الثورة في 21 أيلول عام 1968 أي بعد انقضاء 65 يوما من إعلان قيام النظام.

أعاد هذا الدستور قسماً مما ورد من دساتير 1963 و1964. ففي المادة (1) تم استبدال كلمة (اشتراكية) بكلمة (شعبية)، لتصبح (ديمقراطية شعبية) بدلاً من (ديمقراطية اشتراكية). إذ ورد في المادة (1): ((الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية شعبية تستمد أصول ديمقراطيتها وشعبيتها من التراث العربي وروح الإسلام. الشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها)). وهي عبارات تفنن حزب البعث في المتشدق بها، ولم تنفذ مطلقاً.

وفيما يتعلق بالإسلام يكرر الدستور نفس المادة في الدساتير التي سبقته، إذ تنص المادة (4) على أن ((الإسلام دين الدولة والقاعدة الأساسية لدستورها واللغة العربية لغتها الرسمية)).

كما تنص المادة (17- أ) على أن ((الإرث تحكمه الشريعة الإسلامية)). وأهمل الدستور حقوق المواطنين غير المسلمين فلم يتطرق لها.

وتضمن المادة (30) حريات الأديان والشعائر حيث ذكر أن ((الدولة تصون حرية الأديان وتحمي القيام بشعائرها، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب))

ولحزب البعث تاريخ سيء فيما يتعلق بحرية إقامة الشعائر الحسينية حيث بدأ بمنعها منذ عام 1970، وقام بملاحقة الخطباء وأصحاب المواكب والمشاركين والحاضرين والمتبرعين لإقامتها. وحدثت مصادمات واعتقالات ومصادرة أموال، وأغلقت مساجد وحسينيات بسبب إقامة الشعائر الحسينية. ولعل أشهر مواجهة بين السلطة حدثت عام 1977 عندما منع النظام الزوار من التوجه من النجف الأشرف إلى كربلاء لأداء زيارة الأربعين. وتم اعتقال المئات من الزوار، وحكم على قرابة عشرين شخصاً بالإعدام.

بالنسبة للجنسية العراقية قام الدستور الجديد بتقليص مدة سكن الأسرة في العراق من عام 1900 إلى 1924. إذ تنص المادة (20-أ) على أن ((الجنسية العراقية يحددها القانون ولا يجوز إسقاطها عن عراقي ينتمي إلى أسرة عراقية تسكن العراق قبل 6 آب 1924 وكانت تتمتع بالجنسية العثمانية واختارت الرعوية العراقية)). ولم يتضح السبب لهذا التغيير، وربما أن بعض كبار المسؤولين في حزب البعث كانوا غير مشمولين بالتاريخ 1900. لذلك تم رفعه إلى عام 1924 ليكون وضعهم القانوني منسجماً مع الدستور.

إن تأكيد حزب البعث على قانون رقم 24 الصادر في ٩ تشرين الأول ١٩٢٤ يرسخ التمييز بين العراقيين. إذ أن القانون المذكور اعتبر عراقياً كل شخص كانت لديه التبعية العثمانية فقط، وحرم من كان يتمتع بأية تبعية أخرى كالإيرانية والهندية والأفغانية وغالبيتهم من الشيعة.

 تنص المادة (3) من قانون 1924 على أنه ((كل من كان في اليوم السادس من آب سنة 1924 من الجنسية العثمانية وساكناً في العراق عادة تزول عنه ‏الجنسية العثمانية ويعد حائزاً الجنسية العراقية ابتداء من التاريخ المذكور)).‏

ولتأكيد التمييز القومي تطلب المادة (5) من قانون 1924 من العراقي البالغ أن يختار جنسية دولة أخرى تشابه انتمائه القومي. إذ تنص على أنه ((من أصبح عراقياً بموجب المادة الثالثة وهو بالغ سن الرشد له إن كان يختلف عنصراً عن أكثرية أهالي ‏العراق أن يختار جنسية إحدى الدول التي فيها أكثرية من عنصره وذلك بالطريقة المنصوص عليها في المادة ‏الرابعة بشرط أن توافق تلك الدولة على ذلك)).‏

يتجاهل دستور عام 1968 الشروط اللازم توفرها في رئيس الجمهورية أو رئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة المنحل، لكنه يكرر شروط الوزير الذي وردت في دستور عارف.

إذ تضمنت المادة (66):((يشترط فيمن يعين وزيراً أن يكون عراقياً من أبوين عراقيين ينتميان إلى أسرة تسكن العراق منذ سنة 19٢٤ شمسية وكانت تتمتع بالجنسية العثمانية بالغاً من العمر ثلاثين سنة شمسية وأن يكون متمتعاً بكامل حقوقه المدنية والسياسية)).

دستور 16 تموز عام 1970 المؤقت

بعد سنتين من صدور دستور 1968 قام ما يسمى (مجلس قيادة الثورة المنحل) بتكليف لجنة لوضع مشروع دستور مؤقت وقد تألفت هذه اللجنة من رئيس مكتب الشؤون القانونية في هذا المجلس، وأستاذين من أساتذة كلية القانون بجامعة بغداد وبعد ذلك عقدت هذه اللجنة سلسلة من الاجتماعات وضعت مشروع الدستور المؤقت، ثم تشكلت لجنة أخرى دخل فيها بالإضافة إلى الأعضاء السابقين أستاذان من كلية القانون والسياسة بجامعة بغداد. ورئيس ديوان رئاسة الجمهورية يترأسها نائب ما يسمى (مجلس قيادة الثورة المنحل). وبعدها تمت مناقشة مشروع الدستور من قبل هذا المجلس ووافق عليه بموجب قراره المرقم 792 وصدر بتاريخ 16 تموز عام 1970 والذي ظل نافذا لحين سقوط نظام صدام البائد في 9 نيسان 2003.

شهد دستور 1970 تغييراً طفيفاً فيما يتعلق بالإسلام وحرية الأديان. إذ اختصرت المادة المتعلقة بالإسلام إلى ثلاث كلمات فقط، حيث وردت في المادة (4) من دستور 1970 أن ((الإسلام دين الدولة)).

أما المادة (30) من دستور 1968 الخاصة بحريات الأديان والشعائر التي نصت على أن ((الدولة تصون حرية الأديان وتحمي القيام بشعائرها، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب))، قد أصبحت في المادة (25) من دستور 1970 كالآتي ((حرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية مكفولة، على أن لا يتعارض ذلك مع أحكام الدستور والقوانين، وأن لا ينافي الآداب والنظام العام)). إذ أضيفت كلمة المعتقدات وهي لا تعني بالضرورة الإيمان بدين سماوي، بل أي فكرة أو أيديولوجيا، وربما لا دينية أو حتى إلحادية.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جريدة المؤتمر الصادرة في لندن في 14/5/1993