د. صلاح عبد الرزاق

تحتل الأحزاب الإسلامية بشقيها الشيعي والسني دوراً رئيساً في الحياة السياسية والدينية والمذهبية والاجتماعية في العراق بعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003. وقد لعبت دوراً هاماً في العملية السياسية والنظام الديمقراطي الذي تأسس بعد صدور الدستور العراقي لعام 2005. وما تزال الكتل والشخصيات الإسلامية ذات تأثير ونفوذ واسعين في المشهد السياسي والاجتماعي العراقي.

إن ظهور الأحزاب الإسلامية أو ما يُصطلح عليه بالاسلام السياسي بعد 2003 لا يعني أنها لم تكن ذات جذور تعود لعقود من الزمن، أو ذات نشاط سياسي وثقافي وأمني في معارضة النظام السابق، ومن قبله الحكومات التي عادت التيار الاسلامي في سياساتها العامة. فالأحزاب الاسلامية كانت تشكل عمود المعارضة العراقية، إضافة إلى التيار الليبرالي والكردي تميزت بحضور مكثف ولها نشاطات وعمليات كثيرة ضد النظام الصدامي ومؤسساته وعناصره.

مصطلح الإسلام السياسي

يشير المصطلح إلى مجموعة واسعة من الأفراد أو الجماعات الذين يرون أن للإسلام نظام حكم سياسي متمثل في(الخلافة الإسلامية) أو (الدولة الإسلامية) ، ونظام تشريعي وجنائي متمثل في  (الشريعة الإسلامية)، ويدافعون عن تشكيل الدولة والمجتمع وفقًا لفهمهم للمبادئ الإسلامية، وللإشارة إلى النشاطات واسعة النطاق للأفراد والمنظمات المؤيدة لتحويل الدولة والمجتمع ككل للاستناد لمرجعية من القوانين الإسلامية. ويرون أن الإسلام ليس ديانة وشعائر وطقوس، بل هو عبادة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي صالح لبناء دولة حديثة.

بدأ الخبراء في استخدام مصطلح (الإسلام السياسي) بين عامي ١٩٨٠- ٢٠٠٣ أي بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ وتأسيس أول جمهورية إسلامية بقيادة مرجع شيعي هو الامام الخميني. وكان بعض المختصين بشؤون الإسلام والعالم الإسلامي يتحدثون عن تسيس الإسلام في سياق فشل الحكومات العلمانية في الدول ذات الغالبية المسلمة، بينما استخدم آخرون مصطلحات مثل الاسلاموية والاصولية في نفس الوقت بدلاً من الإسلام السياسي.  

ويمكن تقسيم حركات الإسلام السياسي إلى قسمين:

 الأول: سياسي دعوي يؤمن بالوصول إلى السلطة أو ترسيخ القوانين الإسلامية من خلال دعوة المجتمعات إلى أفكارها وتأسيس الدولة الإسلامية بالوسائل السلمية بما فيها الديمقراطية والانتخابات، مثل الأحزاب الإسلامية العراقية والاخوان المسلمين في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان وحزب التحرير في الأردن، وحزب العدالة والتنمية في تركيا وحزب الله في لبنان، وحركة حماس في بدايتها.

الثاني: سياسي جهادي يؤمن باستخدام العنف والسلاح للوصول إلى السلطة وتصفية مخالفيه ومعارضيه، مثل حركة طالبان في أفغانستان، وتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين والجماعة الجهادية في مصر.

تأسيس المملكة العراقية : العراق في ظل الدولة العثمانية

 خلال العهد العثماني للعراق الذي امتد لأربعة قرون (1534-1917) كان العراق يعيش فترة مظلمة جدب فيها الإبداع الفكري والعلمي والأدبي. ولولا بعض الحواضر الدينية كالحلة وسامراء وكريلاء والنجف الأشرف لتم انقراض اللغة العربية. إذ كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية في الدوائر والمحاكم والمعاهد والمدارس الحكومية. وكان العراق خلال هذه الفترة الطويلة مجرد ولاية بعيدة تابعة للبلاط العثماني، يحكمها المماليك الأتراك، يجمعون الضرائب ويرسلونها إلى اسطنبول لتبنى بها القصور والجسور وإعمار المدن العثمانية. وكان الولاة غير معنيين بإعمار البلد الذي يحكمونه، ويعاملون سكانه بعجرفة واضطهاد. فلم يترك العثمانيون أي معلم عمراني بارز إلا بعض الأبنية المتواضعة التي قام بها نامق باشا ومدحت باشا (1869-1872) في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. إذ حكم العراق 133 والياً يجري تعيينهم من قبل السلطان العثماني ليس فيهم عربياً أو عراقياً.

وعانت الأغلبية الشيعية من الاضطهاد والتمييز الطائفي في أكثر جوانب الحياة في المجتمع والدولة. إذ حرموا من التعيين في الوظائف الحكومية، ومن تعليم أبنائهم في المدارس الرسمية إلا ما ندر. واقتصر قبول الطلاب في المدارس العسكرية على السنة إلا بعض أبناء الذوات أو الشيوخ الشيعة لأسباب تتعلق بعلاقتهم الوثيقة بالإدارة العثمانية. كما حرموا من العمل في سلك القضاء وحتى في المدن الشيعية كان القاضي سنياً. الأمر الذي جعل الشيعة يرفعون دعاواهم وشكاواهم إلى المجتهدين والفقهاء ومراجع الدين، مع أن أحكامهم لا تحظى باعتراف رسمي.

وشهدت المدن الشيعية عدة ثورات وانتفاضات ضد الظلم والتعسف العثماني، وضد التجنيد الإجباري الذي كان يساق إليه الشباب العراقي للمشاركة في حروب الدولة العثمانية مع أعدائها في أوربا وآسيا. وغالباً لا يعود منهم أحد إلى أهله.

أما الحياة السياسية فلم تكن للشيعة أية مشاركة ملموسة. فرغم أن أول برلمان عثماني (مجلس مبعوثان) قد افتتح في 13 كانون الأول 1877 لكن لم يكن للعراق فيه تمثيل مثل بقية الولايات العثمانية كسوريا ولبنان. إذ بقي العراق معزولاً عن المشاركة في الانتخابات حتى عام 1912 حيث أجريت أول انتخابات لاختيار مندوبي العراق في مجلس المبعوثان. وكان تزوير إرادة الشيعة هو الأمر الواضح فيها، وحرموا من حق التمثيل في المدن الشيعية. إذ كان ينجح المرشحون السنة في المدن الشيعية كالبصرة وكربلاء والديوانية والناصرية والعمارة، رغم أنهم ليسوا من سكان تلك المدن. وحرم الشيعة من تولي المناصب الإدارية في المدن الشيعية كالألوية والأقضية والنواحي، إضافة إلى قيادات الشرطة ووحدات الجيش.

لقد كانت الإدارة التركية في العراق فاشلة من جميع النواحي، فهي إدارة متخمة بالرشوة، والفساد الإداري، والمالي والأخلاقي. في عام 1910 يصف المقيم البريطاني في بغداد المستر ج. بريمر الحالة بأن ((جهاز الإدارة التركي العام لا يلائم العراق من جميع الوجوه تقريباً. وعلى الترك أنفسهم أن يعترفوا بأنه جهاز فاشل هنا. رغم أن فشله واضح بما فيه الكفاية، لكن القليل منهم يدرك أسباب هذا الفشل)). [1]

حركة الجهاد 1914

استفاق العراقيون على هدير المدافع البريطانية عندما نزلت القوات البريطانية مدينة الفاو في السادس من تشرين الثاني 1914، فانتفضوا ضد الغزو البريطاني، يقاتلون ويجاهدون للدفاع عن العراق.  ورغم المرارة التي اصطبغ بها الشعور الشيعي تجاه الدولة العثمانية، لمن الشيعة وقفوا إلى جانب الجيش التركي لمواجهة القوات البريطانية الغازية. فكان الدفاع عن العراق فوق المشاعر والاضطهاد التركي طوال قرون. فعند نزول أول قدم بريطاني، بادر أهالي الفاو إلى إرسال برقية إلى المرجع الأعلى آنذاك السيد كاظم اليزدي (1831-1919) فأجابهم بفتوى وجوب الجهاد والدفاع عن العراق.

اتسمت حركة الدفاع العراقية ضد القوات البريطانية بجانبين:

الأول ديني بقيادة المرجعية الدينية التي أصدرت الفتاوى، وحثت على التطوع للقتال، بل وشارك علماء وفقهاء شيعة في بعض المعارك. إذ برز التوجه الإسلامي والشرعي في الجبهة التي يقودها علماء الدين.

الثاني: جماهيري شعبي تمثل في مشاركة أبناء العشائر في القتال كونهم يملكون السلاح ويجيدون القتال، ولديهم حس وطني والتزام شرعي بأوامر المرجعية الدينية في النجف الأشرف. ويضاف إليهم بعض الوجهاء والتجار والمثقفين في المدن والذين اندفعوا بحماسة لمواجهة الغزو الأجنبي، فساندوا حركة العلماء والعشائر.

   ومنذ ذلك الوقت، استمر دور المرجعية الدينية بارزاً في المشهد السياسي العراقي بكل ما تمثله من عمق التأثير على المجتمع، ومواقفها من الأحداث السياسية والقرارات الحكومية. الأمر الذي أعطى للجماهير قوة في الموقف والتأثير على الأحداث. ويعتمد ذلك على قدرة المرجع الأعلى في التعاطي مع القضايا السياسية والحكومية. [2] كما كان لعلماء آخرين مواقف سياسية مثل الشيخ محمد حسين النائيني والسيد محمد الصدر والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء والشيخ جواد الجواهري والسيد محمد علي بحر العلوم والسيد محمد باقر الصدر.

دور متنام لعلماء الدين

بعد استكمال الاحتلال البريطاني للعراق ودخول القوات البريطانية بغداد في 11 آذار 1917 بدأت الإدارة العسكرية تدير الأمور بقيادة الجنرال اليهودي السير برسي كوكس (١٨٦٤- ١٩٣٧) ونائبه أ. ت. ويلسن. ففي عام 1918 واجه العلماء وعلى رأسهم الشيخ محمد تقي الشيرازي (١٨٤٠- ١٩٢٠) مقترحاً عرضه ويلسن حول تأسيس حكومة عربية تحت الوصاية البريطانية. إذ انقسم الرأي العام بين من أبدى رغبته بإدارة بريطانية مباشرة في العراق، وبين من أراد حكومة وطنية يحكمها أمير عربي. وكان للفقهاء دور في الدعوة إلى تشكيل حكومة مستقلة يرأسها ملك عربي مسلم، وتخضع الحكومة لمجلس منتخب (برلمان)، ودستور ينظم صلاحيات وواجبات الملك، والسلطات التشريعية، والتنفيذية والقضائية.

في 8 كانون الثاني 1918 رفعت النقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي وودرو ولسن (١٨٥٦- ١٩٢٤) إلى مجلس الشيوخ الأمريكي لإبرامها. والنقطة الثانية عشرة تتعلق بحق الأمم في تقرير مصيرها، ولاسيما تلك الدول التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية.

في 7 تشرين الثاني 1918 صدر بلاغ فرنسي-بريطاني ينص على ((أن الهدف النهائي الذي ترمي إليه كل من بريطانيا وفرنسا هو التحرير الكامل الناجز لجميع الشعوب التي خضعت طويلاً للجور التركي، وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطانها من تأييد رغبة السكان الوطنيين أنفسهم، ومحض اختيارهم، واعترافهما بهذه الحكومات -عندما يتم تأسيسها تأسيساً فعلياً- وكان موضوعاً بصورة أولية ليشمل سوريا والحجاز، ولكن العراقيين طلبوا شموله العراق كأمر طبيعي ، وفي الوقت نفسه برزت فكرة الانتداب)).[3]

في 23 كانون الثاني 1919 أصدر المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي فتواه الشهيرة ((ليس لأحد من المسلمين أن يختار أو ينتخب غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين)). وقد أيّد هذه الفتوى سبعة عشر عالماً من كربلاء والكاظمية.  وبذلك حدد الشيرازي شكل النظام السياسي الديمقراطي للدولة الحديثة. كما أنهى الجدل الذي أثير بين الطبقات المثقفة والدينية. هذه الفتاوى حسمت الأمر لصالح الحكومة العراقية المستقلة، حيث اعتبرت كل من يصوّت للاحتلال الانكليزي مارقاً عن الدين، ويعرّض نفسه للطرد من الجوامع والمساجد والحسينيات.

لقد ربط الشيرازي القضية السياسية بأصول دينية تجعل من الصعب مواجهتها أو تجاوزها خاصة في الأوساط الشعبية التي تحتفظ في نفوسها بمكانة مقدسة لمراجع الدين. كما أُجبر المؤيدون للاحتلال البريطاني المباشر على تأييد الفتوى ولو ظاهرياً خوفاً من الاتهام بالعمالة من قبل الجماهير والعشائر.

رغم المطالبة الدينية والشعبية بتأسيس حكومة عربية مستقلة مقيدة بمجلس تشريعي لكن الإدارة البريطانية أخذت تماطل في تنفيذ إرادة العراقيين. شعر المرجع الشيرازي بالقلق فبادر إلى الاتصال بالرئيس الأمريكي وودرو ولسن Woodrow Wilson (رئيس 1913-1921) فأرسل إليه رسالة في 13 شباط 1919 ، أي بعد عشرين يوماً من فتواه الشهيرة، أكد فيها على المطالب العراقية في تأسيس حكومة وطنية وتأسيس مجلس وطني منتخب. [4]

ثورة العشرين 1920

 في 25 نيسان 1920 عقد مؤتمر سان ريمو بإيطاليا حيث تقرر فرض الوصاية الدولية على مناطق نفوذ تركيا السابقة. في الأول من أيار 1920 أُعلن الانتداب البريطاني على العراق. الأمر الذي أثار غضب الشارع العراقي. تصاعدت المعارضة العراقية للإدارة البريطانية، ونشطت المعارضة السياسية تحث الجماهير لمواجهة سلطات الاحتلال. كان المرجع الشيرازي يرى ضرورة التدرج في المواجهة والاكتفاء بما تحتاجه المرحلة دون تصعيد لا مبرر له قد يؤدي إلى سفك دماء المسلمين. وقبل اتخاذ قرار الثورة المسلحة أراد الاطمئنان إلى قوة الشعب في استعداده للمواجهة، ولكن الأمور كانت تسير نحو التصادم مع الإدارة البريطانية.

شعرت القيادات المعارضة أنه من اللازم توحيد صفوفها، فشكّلت وفوداً وعقدت اجتماعاتِ مشتركة بين الشيعة والسنة. وقد بارك الشيرازي هذا التقارب والتعاون والتنسيق، ودعا إلى المظاهرات والمطالبة بحقوقهم وتحقيق أهدافهم في تشكيل حكومة عراقية.

لم ترضخ بريطانيا للتظاهرات والبيانات، بل أكدت في 17 حزيران 1920 على الانتداب البريطاني. وبادر ويلسن إلى إصدار أوامر باعتقال بعض الرموز القيادية المحرضة في كربلاء. كما استخدمت في الحملة طائرات من القوة الجوية البريطانية لبث الرعب في نفوس الناس. تم اعتقال مجموعة من الثوار وتم نفيهم إلى جزيرة هنجام في الخليج العربي. كانت الأمور تسير باتجاه الثورة. ذهب المعارضون إلى الشيخ الشيرازي فأصدر فتواه التي تجيز استخدام القوة ضد الانكليز بقوله ((مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين. ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن. ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم)).

في 30 حزيران 1920 اندلعت الثورة من الرميثة وسرت إلى بقية مناطق الفرات الأوسط وشملت المحافظات الجنوبية ثم لتعم العراق. فحدثت معارك عديدة، وتدهورت الأمور بسبب الأوضاع التي رافقت الثورة، حيث امتلأت ساحات القتال بالقتلى والجرحى، كما سيق الأسرى من الطرفين. وأحرقت المزارع والقرى، وقصفت بالطائرات المدن العراقية، وتدمير المباني والمنشآت والسكك الحديدية، بل وحتى المساجد وغيرها. وخسر فيها الجانب البريطاني 877 قتيلاً و1228 جريحاً و615 مفقوداً، بينما كانت الضحايا في جانب الثوار 8450 بين قتيل وجريح وأسير.[5] 

تأسيس أول حكومة عراقية

بعد ثورة العشرين 1920 والهزيمة العسكرية التي لحقت بالثوار، ففي 25 تشرين الأول 1920 بادرت الإدارة البريطانية لتشكيل أول حكومة عراقية برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب الكيلاني، وضمت ثمان وزراء: ستة من السنة، وواحد يهودي وواحد شيعي. وكان النقيب يرأس بلدية بغداد في العهد العثماني وحتى دخول الإنكليز إليها فاتحين.

في 23 آب 1921 تم تتويج الملك فيصل بن الشريف حسين (١٨٨٣-١٩٣٣) كأول ملك هاشمي للعراق. جاء الملك فيصل من سوريا حيث كان ملكاً فيها لمدة سنتين (1918-1920). وعندما أصبح ملكاً للعراق استقدم مجموعة من الشخصيات من الذين خدموا معه من قبل، وكانوا قسم منهم من الضباط العثمانيين أمثال جميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي وعبد الحميد الشالجي ونوري السعيد.

اتسمت حكومة فيصل وسياسته بابتعادها عن الإسلام إلا في بعض المظاهر البروتوكولية مثل حضور بعض الشعائر والطقوس الدينية. وقامت الإدارة البريطانية بتأسيس مؤسسات علمانية كالبرلمان، والمحاكم، والتعليم، والوزارات. فلم يكن للدين أو الإسلام أي دور سوى وجود الحوزات العلمية القديمة في النجف الأشرف وبقية المدن المقدسة. كما أعطيت وزارة الأوقاف مهام إدارة العقارات الموقوفة وبناء إدارة الجوامع والحسينيات وتعيين الأئمة والمؤذنين والخدم فيها. وبقيت بعض المحاكم المذهبية تتولى قضايا الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، والحضانة، والإرث، وغيرها.

دستور 1925

 يعد الدستور أهم وثيقة سياسية وقانونية تنظم شؤون الحكم وصلاحيات المؤسسات الدستورية وكيفية تداول السلطة وسلطات الحكومة والقضاء والمجلس التشريعي أو أية صيغ قانونية يرتضيها نواب الشعب الذين يضعون الدستور ويرتضيها الشعب.

وكان الدستور واحداً من المطالب الهامة التي نادى بها ممثلو الشعب العراقي بقيادة علماء الدين منذ الاستفتاء الذي أجري في العراق عام 1918 حول شكل الحكم الذي يرغبون به حين صوّت غالبية العراقيين بدولة دستورية مستقلة برئاسة أحد أنجال الشريف حسين على أن يكون مقيداً بمجلس نيابي.

بقيت المناداة بالدستور تحتل حيزاً رئيسياً في المفاوضات بين الإنكليز والعراقيين. وقد تأخر وضع الدستور لأسباب منها ثورة العشرين عام 1920 ضد الإدارة البريطانية في العراق، وتتويج فيصل ملكاً على العراق ، وعقد المعاهدة العراقية-البريطانية ، ثم تشكيل المجلس التأسيسي العراقي الذي أنيطت به المصادقة على المعاهدة كأول عمل يقوم به ، وتأخر المصادقة عليها بسبب تصاعد الرفض الشعبي ضدها.

تعود الأرضية القانونية والسياسية التي اعتمدت لوضع دستور للعراق إلى عدة قرارات دولية هي:

أولاً: ما ورد في الفقرة الرابعة من المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم التي تتعلق بالانتداب على الدول الخارجة من نفوذ الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى ومنها تركيا. تنص تلك المادة على ما يلي:

(إن بعض البلاد كانت في القديم تابعة للإمبراطورية العثمانية، وقد بلغت درجة راقية يمكن معها الاعتراف مبدئياً بكيانها كأمم مستقلة، على أن تستمد الارشاد والمساعدة من دولة أخرى حتى يأتي الزمن الذي تصبح فيه قادرة على الوقوف منفردة. إن اعتبار رغبات هذه البلاد يجب أن يكون في المقام الأول في اختيار الدولة المنتدبة).

في 25 نيسان 1925 فرض مجلس عصبة الأمم الانتداب البريطاني على العراق. وفي 9 كانون الأول 1920 نظمت الحكومة البريطانية لائحة لانتدابها على العراق في عشرين مادة، ورفعتها إلى عصبة الأمم للتصديق، وقد جاء في المادة الأولى من اللائحة الإشارة إلى الدستور العراقي أو (القانون الأساسي) كما كان يسمى، بالصيغة التالية:

((للمنتدب أن يضع قانوناً في أقرب وقت، على ألا يتجاوز الثلاث سنوات من تاريخ تنفيذ الانتداب، قانوناُ أساسياً للعراق يعرض على مجلس عصبة الأمم للمصادقة عليه فينشره سريعاً. وهذا القانون يسن بمشورة الحكومة الوطنية، ويبين حقوق الأهالي الساكنين ضمن البلاد، ومنافعهم ورغائبهم، ويحتوي على مواد تسهل تدرج العراق وترقيه كدولة مستقلة. وفي الفترة قبل العمل بالقانون الأساسي، يجري العمل في العراق طبقاً لروح الانتداب )).[6]

ثانياً: بعد تتويج فيصل أذاع المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس في 23 آب 1921 أن الحكومة البريطانية قد اعترفت بالأمير فيصل ملكاً على العراق على أساس القرار المتخذ في مجلس الوزراء العراقي في 11 تموز 1921 والذي يشير إلى شكل الحكومة ويصفها بأنها حكومة دستورية، حيث نص على (أن تكون حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون).[7]

ثالثاً: نصّت المادة الثالثة من المعاهدة العراقية-البريطانية الموقعة بين رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب والسير برسي كوكس في 10 تشرين الأول 1922 على سن دستور عراقي وضعت حدوده وشكله وأهم مواده حيث جاء فيها:

((يوافق جلالة ملك العراق على أن ينظم قانوناً أساسياً ليعرض على المجلس التأسيسي العراقي، ويكفل تنفيذ هذا القانون الذي: يجب أن لا يحتوي على ما يخالف نصوص هذه المعاهدة، وأن يأخذ بعين الاعتبار حقوق ورغائب ومصالح جميع السكان القاطنين في العراق ويكفل للجميع حرية الوجدان العامة ، وحرية ممارسة جميع أشكال العبادة ، بشرط أن لا تكون مخلة بالآداب والنظام العمومين، ويكفل أن لا يكون أدنى تمييز بين سكان العراق بسبب قومية أو دين أو لغة ، ويؤمن لجميع الطوائف عدم نكران أو مساس حقها بالاحتفاظ بمدارسها لتعليم أعضائها بلغاتها الخاصة ، على أن يكون ذلك موافقاً لمقتضيات التعليم العامة التي تفرضها حكومة العراق، ويجب أن يعين هذا القانون الأساسي الأصول الدستورية ، تشريعية كانت أو تنفيذية التي ستتبع في اتخاذ القرارات في جميع الشؤون المهمة بما فيها الشؤون المرتبطة بمسائل الخطط المالية والنقدية والعسكرية)).[8]

 أما (المجلس النيابي) و(مجلس الأعيان العراقي) فقد بقيا تحت تأثير الحكومة والملك والأعضاء المساندين له دخل المجلس النيابي والأعضاء الذين يعينهم هو في مجلس الأعيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] صلاح عبد الرزاق (المرجعية والاحتلال الأجنبي) / ص 54 نقلاً عن (تقرير الإدارة المدنية) للمسز بيل.

[2] منذ بداية القرن العشرين ولحد اليوم تعاقب عدد من المراجع مثل: السيد محمد حسن الشيرازي (1864 – 1895) ، الملا كاظم الخراساني (1895-1911) ، السيد كاظم اليزدي (1911-1919) ، الشيخ محمد تقي الشيرازي (1919-1920) ، الشيخ فتح الله الأصفهاني (1920-1920) ، السيد أبو الحسن الأصفهاني (1920-1946) ، السيد محسن الحكيم (1946-1970) ، السيد أبو القاسم الخوئي (1970- 1992) ، السيد علي السيستاني (1992-     ).

[3] -عبد الرزاق الحسني (الثورة العراقية الكبرى) / ص 32 نقلاً عن تاريخ مؤتمر الصلح في باريس لتمبرلي /ج6/ص180 وكذلك عبدالله فهد النفيسي (دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث) / ص 112

[4]  علي الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) / ج 5 / ص 105

[5] – عبد الرزاق الحسني (تاريخ العراق السياسي الحديث) / ج 1 / ص 175

[6] – عبد الرزاق الحسني (تاريخ العراق السياسي الحديث) / ج 1 / ص 246

[7] – عبد الرزاق الحسني (تاريخ العراق السياسي الحديث) / ج 1 / ص 247

[8] – عبد الرزاق الحسني (تاريخ العراق السياسي الحديث ) / ج 2 / ص 37