حمزة مصطفى
كلما حاولنا الخلاص من الماضي (غير المجيد حتى لا يزعل محبوه) يجرنا اليه بسلاسل من حديد. تفكيرنا كله داخل الصندوق والصندوق مقفل والمفتاح عند العروس والعروس تريد فلوس والفلوس عند الـ 35 ملياردير الذين بشرنا بدخول جنتهم وزير خارجيتنا الأسبق هوشيار زيباري. الماضي يلاحقنا آناء الليل وأطراف النهار في كل شيء. في المأكل والملبس (الم يقولوا لنا أكل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس)؟ الماضي يلاحقنا في حلنا وترحالنا بدءا من السلام على المؤمنين من أصحابنا أو على “من اتبع الهدى” من أصحابهم، يلاحقنا في الشعر بدءا من لبيد وزهير وطرفة الى بشار وأبو نؤاس وكثير عزة. يلاحقنا في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والتفاسير والأسانيد والفتاوى والفلسفة والطب وعلم النجوم ومقدمة ابن خلدون ورحلات ابن بطوطة وطوق الحمامة وصولا الى مسلسلاتنا وأغانينا وأهازيجنا وهوساتنا و”هايا سعد ياجدنا”.
مطربونا عجزوا عن الفكاك منه بدء من ملا عبود الكرخي الى سلمان المنكوب. الملا عبود الكرخي “خلص” عمره يهدد بكسر المجرشة ولم يحل رجل دجاجة. رحل الكرخي ورحل معه نصف الكرخيين وبقيت المجرشة تتناسل مجارش ومجرشات ومجاريش وبينها مطاحن ومخابز ومعاجين تدر الملايين والمليارات بعد أن صارت استثمارات بدكاكين ومولات. لم يبق أمام الملا سوى أن يتساءل في ختام حربه الخاسرة مع المجرشة التي طالما تغنت بها كل حفلاتنا وأداها كل مطربينا ومطرباتنا “هم عيشة هاي وتنكضي وحساب أكو تاليها.. ذبيت روحي على الجرش وأدري الجرش ياذيها”. نوع من السادية المطلوبة دائما وأبدا لجلد الذات وتطهيرها من الذنوب.
 أغنية أخرى تنتمي الى ماضينا الخالد المبنية على متوالية حسابية قوامها الصراع بين المسهد والمسعدة. فـ “فالتجليبة” تنقلت هي الأخرى مثل المجرشة بين المطربين والمطربات والفاشنستيين والفاشنستات الصادحات (أجلبنك يليلي 12 تجليبة, تنام المسعدة وتكول مدري به) المسهدة “تدري به” لذلك تتلوى أما المسعدة التي بيتها على الشط تملك سعادة إضافية لأنها من أين تميل تغرف مثل الكثيرين ممن باتوا يغرفون أينما يميلوا. ثقافة التجليبة هي التي تحكمنا ماضيا وحاضرا بوصفها جزءا من سلوك جمعي قائم على تخدير مسبق لاتوقظه الإ التناحرات والخلافات على كل شيء وبشأن أي شيء قوانين وإجراءات وموازنات وسرديات (حتى السرديات دخلت قائمة الخلاف المزمن بين من يرى عبد الرزاق عبد الواحد شاعرا كبيرا أو مجرد شاعر).
كل هذا وسواه بات يتغذى من ثقافة الكروبات ويغذي نفسه من جو الخلافات السياسية والمجتمعية التي باتت تطفو على السطح بوصفها شغلنا الشاغل وليس ما يعانيه المجتمع من مشاكل وأزمات وصلت حد متابعة عدد حالات الانتحار اليومية التي تتلى علينا مثل نشرة الأنواء الجوية وبورصة الذهب والدولار. كل شي بات محكوم بما يسمى الذاكرة السمكية مثلما يقال. العراقي ينسى ماذا “تعشى البارحة” لكن تعلق في ذهنه حادثة وقعت قبل مئات أو ربما الآف السنين. العراقي يتذكر متى تزوج أبونا أدم أمنا حواء، ولكنه لا يتذكر أيام عرسه. ذاكرة سمكية انتقائية من طراز فريد. وبين هذا وذاك سوف نبقى محكومين سلوكيا واجتماعيا في دائرة سؤال جبار عكار للذئب ” (ياذيب ليش تعوي.. حالك مثل حالي)، وتحدي ياس خضر لليل “ياليل ما أطخ لك راس وأشكي لك قهر” بينما شبعنا قهر حين ناجى روحه ونحن ـ على الواهس ـ معه “روحي ولاتكلها إشبيج وأنت الماي.. حلاوة ليل محروكة حرك روحي”. سؤال الروح أكثر حميمية من سؤال الذئب الذي لايملك سوى العواء من شدة الجوع بينما الليل هنا صار حلاوة.. شعرية.