د.كرار ناصر حريب / باحث انثروبولوجي
كان من دواعي سروري ان اكون ضمن كوكبة من مفكري ومبدعي العراق في حلقة نقاشية حملت عنوان (الوردي في ذكرى رحيله: تراث من الأفكار المتصارعة)، واقد ابديت رأياً نقديا في حق المفكر الكبير الوردي رحمه الله واسكنه فسيح جنانه. والذي أكن له كل الاحترام والتقدير. مفاده انه ليس مثقفا وقد غلبت على اغلب كتاباته الصبغة التاريخية. وقد اثار هذا النقد بعض التساؤلات والاعتراضات. ارتأيت التوضيح بمجموعة نقاط:
اولاً: في موضوعة المثقف، هناك ادعاء ضمني مفاده انه كل منتج خطاب ومبدعه يعد مثقفاً، وهذا يدعونا الى تساؤل مهم في هذا الصدد، من المثقف، وفي الحقيقة لا أجد اتفاق حول شخص المثقف وخصائصه، اذ ينكر الكثير من المفكرين وجود نموذج محدد ينطبق على كل المثقفين، فالمفهوم يتسع احيانا ليشمل كل من له تأثير او كتب سطرا او قال حكمة او حتى مقطع شعر شعبي، ويضيق أحيانا أخرى ليطرد منه كتابا وشعراء وسياسيين.
 وهناك من يربط المثقف بالثقافة؛ وهناك من يربطه بالتعليم. فالشخص المثقف هو الّذي تلقّى قدراً من التعليم. وهناك من يربطه بالأفكار، حتى ان سارتر قد شكك من وجوده كمثقف، والأستاذ محمد عابد الجابري يقول، عندما طرح علي السؤال، من المثقف؟ شعرت بالفراغ، ذلك ان مرجعيتي الثقافية العربية لم تبادر بسرعة في اسعافي بالجواب، أنى لم أجد لا في معلوماتي اللغوية ولا في معارفي العلمية مرجعية عربية تشدني اليه. الموضوع شائك ومعقد ومتشعب، فقد يصور بعض المفكرين والباحثين بان المفهوم يشير الى امتياز يطمح اليه المرء، في حين ينظر اخرون للمثقف صعوبة وضعه في حيز، وهذا يجرده من انتمائه الاجتماعي والمكاني والزماني، فهو في حقيقة الامر الجندي المجهول والشهيد الذي لا ينتظر شهادة أحد. ويصنف عبد القادر عرابي في كتابه ازمة المثقف العربي، المثقف المعاصر الى أربعة أنماط من المثقفين وهم. المثقف النقدي: وهو المستقل، المرجعي، صاحب الفكر المسؤول، حامل رسالة النهضة، وهموم الامة والمجتمع. الثاني: المثقف الخبير او الفني: الذي يختزل دوره عادة في بعد سلبي واحد وهو تقديم المشورة او الخبرة فيما يطلب منه. ثالثا: المثقف القومي: وهو خارج دائرة الفعل، وان كان بعضهم ما يزالون في السلطة فانهم يصنعون الكلام لا الفعل. رابعا: مثقف سلطة: والذي تكون علاقته بالسلطة علاقة ولاء. وليس له أي ولاء للمجتمع. وربما يكون هذا التصنيف الأخير اهون على الكتاب والمفكرين العراقيين اذ يتيح لهم مساحة واسعة للحركة الفكرية وتصنيفاتها. والغريب هناك من ينظر للمثقفين بوصفهم فئة من الدجالين على حد تعبير جوليان بندا صاحب كتاب خيانة المثقفين. وهناك تصنيفات أخرى كثيرة للمثقف لا يسعني ذكرها.
تبقى المنظورات واجوبتها مفتوحة على اللانهائيات، في الحقيقة انا ضد اغلب التوصيفات التي وردت أعلاه، وبوصفي باحثا انثروبولوجيا يفرض علي التزامي الأخلاقي والاكاديمي ان اكون منهجيا قدر المستطاع عندما اتعامل مع أي موضوع ومن ضمنها موضوعة المثقف وان اضع تصورا محددا للتعامل معه.
لقد سعى (سلامة موسى) الى مقاربة لطيفة في ربطه مفهوم الثقافة بالمثقف عندما ادخل اول مفردة للمثقف في الوطن العربي، وان كنت اظن انها كتبت عنها في القرن الثامن عشر، وهذا يعني ان مقاربة المفهومين دائما تسير او الاغلب في الجانب الإيجابي من الثقافة والحضارة تبعا لجذورهما، هنالك ادعاء مفاده انه لا يمكن ان يكون كل باحث رائد، وانما بالضرورة ان يكون كل رائد باحث في مجال تخصصه، وفي الحقيقة نفس المقولة استند عليها في موضوعة تصنيف المثقف، وأقول لا يمكن ان يكون كل مفكر مثقف، لكن بالضرورة ان يكون كل مثقف مفكر. فالمثقف كما يصفه (ادوارد سعيد) بانه شخص قادر على قول الحق في مواجهة السلطة، كفرد بليغ وشجاع الى درجة لا تصدق بحيث لا يمكن انتقاده، ولا يمكن التكهن بأدائه العلني، او اخضاع تصرفاته لشعار ما، او خط حزبي تقليدي، او لعقيدة جازمة ثابتة…. فالمثقف لابد ان يحمل في اعماقه هموم المجتمع والوطن ويعيش مع الجماهير يرتقي بإرادتها وبوعيها ويحسسها بواقعها ويحرضها على تجاوزه الى ما هو أفضل. فهو ضمير مجتمعه، شاهد عليه، وظاهرة متجلية من ظواهره. ولا يساوم ولا يقبل انصاف الحلول عندما تتعلق القضية بالحرية والكرامة. فهو البنًاء، شامخ شموخ الجبال، لما يحمله من خلق وأفكار وقيم عظيمة لا تتغير مع تغير المواسم ولا تتأثر بالاجتهادات الموسمية، يندفع بعلمه وشفافيته وعقلانيته، للدفاع عن الامة والوطن، خاصة في أوقات المحن والضياع والانكسار الثقافي الحضاري، ويجعل من الاستقلال الوطني والمحافظة على اصالة الثقافة، قضيته الأولى، في ظل زمن الظلم والطغيان، فهو المنتج للثقافة ومبدعها والمفتخر بها، يسعى الى تطويرها وتنميتها وانتشارها والحفاظ عليها، وليس تعريتها امام الاخرين فقد مررنا بأقسى واشد مرحلة تاريخية مر بها الشعب العراقي، الا وهي مرحلة حكم البعث. ولا اعتقد بحسب رأيي المتواضع هذه المواصفات تنطبق على اغلب مفكري العراق.
ثانياً: اما موضوعة كتابات المرحوم الدكتور الوردي بانها ذات صبغة تاريخية وأنها ابتعدت عن الغرضية التي ينشدها عالم الاجتماع في تعامله مع قضايا المجتمع.، فقد أشار الي احد الاخوة الافاضل صاحب الذوق والادب الرفيع متفضلا، في نص اعتراضه على الفكرة، مدعيا ان هناك تقارب ووشائج بين التخصصين. للتوضيح أقول:
عندما أسس اوغست كومت علم الاجتماع، جاء بفكرة أساسية وهي ان العقل البشري استعمل مسارات متعددة في ادراك الوجود وثبت حسب تصوره ان المنهج الادراكي الاصوب هو المنهج التجريبي العلمي، ولذا استقل المنهج التجريبي بالمادة، فقد بقيت القضية الإنسانية او الظاهرة لا تزال في منأى عن الدراسة العلمية، حاول كومت في دعوته هذه لتأسيس علم الاجتماع أن يسبغ عليه طابع الفلسفة الوضعية، التي تدَّعي أن الحقائق الاجتماعية يجب أن تعامل بوصفها أشياء، وهذ ما دعي اليه دوركهايم عندما قرر ضرورة دراسة الحقائق الاجتماعية على أنها أشياء (أي شيء يوصف بصورة مؤكدة على انه شيء حقيقي)، وأن الباحثين فيها يجب أن يعتمدوا مدخلاً موضوعياً، وبهذا يمكن الوصول إلى تعميمات ميدانية تُستمد منها القوانين المفسِّرة للمجتمع، وتصنف هذه القوانين في نوعين أساسيين: الأول خاص بقوانين التغير الاجتماعي، والثاني خاص بقوانين الثبات الاجتماعي. لقد ميز كونت في دراسته للعلوم بين ستة علوم أساسية يرتبها من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً على النحو الآتي: الرياضيات، علم الفلك، علم الطبيعة، علم الكيمياء، علم الحياة، علم الاجتماع، ويرى أن هذه العلوم مبنية على الاستقراء الذي يعني بالنسبة إليه دراسة الواقع؛ للخروج بنتائج وقضايا نظرية. في الحقيقة وفق هذا التصور يجب ان تستند دراسة المجتمع العراقي من الناحية الموضوعية والطبيعية؛ على تطبيق المنهج الموضوعي في دراسة الظواهر على أساس الملاحظات التي يمكن أن تنتهي الى قوانين اجتماعية عامة تفسر الظواهر المنتشرة في حياة الناس، ولا وجود للتاريخ في دراسة الظواهر الاجتماعية.
عند قراءتي للمقاربة الرائعة التي قدمتها الأستاذة الفاضلة دينا رزق خوري بين حنا بطاطو وعلى الوردي، اثارني الاستغراب والالم لنص اقتبسته منها، تقول الأستاذة دينا، في تحليل الوردي لثورة العشرين ضد البريطانيين، لم تكن انتفاضة وطنية او مناهضة للاحتلال جمعت بين زعماء القبائل في منطقة وسط الفرات وبين الوطنيين في المدن العراقية. على عكس من ذلك كانت انتفاضة قبلية مشحونة بالمصالح الشخصية الضيقة للشيوخ القبليين، تصوير هذه الانتفاضة بوصفها إشارة الى اول شعور وطني، كما يدعي كثير من العراقيين، هو امر خاطئ، والحقيقة زادني الفضول اكثر للتساؤل، كيف يصدر عالم اجتماع كبير مثل الدكتور الوردي اطلاق حكم على اهم حدث تاريخي للعراق في القرن العشرين لم يكن شاهدا عليه، مطلعا حسيا على احداثه، مواكبا لتطوراته منذ انطلاقته، ومعرفة تصورات الناس لهذا الحدث وكيف تفاعلوا معه، اليس من المفروض ان يكون عالم الاجتماع شاهدا على الاحداث لنقل الحقيقة فضلا عن اصدار الاحكام، وكما يقولون عندما تكون في قلب الحدث تكون الحقيقة اقرب من أي وقت مضى.
مع احترامي الشديد للأخ الفاضل الذي ادعى بان هناك وشائج وترابط بين التخصيص، ارجو منه متكرما ان يسعفني بالمصدر الذي تحدث عنه وهو علم الاجتماع التاريخي للاطلاع عليه واكون شاكرا له. اما في مسالة النقد، فهل من الضروري ان نلتقي بالمفكرين والكتاب للاطلاع على شخصياتهم ومحاورتهم لأفكارهم شرطا اساسيا لتقديم النقد ضدهم. كذلك الأخ الفاضل من عنوان نشره للمدونة التي حملت عنوان علي الوردي منزوع الثقافة، أقول، باي حق ومن أكون حتى اجرد انسان من ثقافته، واي انسان، انه المفكر الدكتور علي الوردي، في الحقيقة هذا عنوان خطير، انا بريء منه، ولم اتبنى هكذا فكرة خطيرة لا سابقا ولا الان ولا حتى مستقبلا.
في الختام قد أكون مبالغ جدا عندما اقول إني احمل في قلبي احتراما وتقديرا كبيرا يفوق الجميع للمفكر الدكتور علي الوردي، ولنتاجاته الفكرية الفذة، لكن هذا النقد يبقى ضمن دائرة الأفكار التي تطرح في الساحة لا غير، ولا زلت متمسكا بفكرتي، علي الوردي مفكرا وليس مثقفا، والله من وراء القصد.