د. نصر محمد علي/ مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
أسفرت الانتخابات التمهيدية عن فوز دونالد ترامب بأغلبية ساحقة على منافسيه في الترشح للمنافسة على الرئاسة قبيل المؤتمر القومي للحزب الجمهوري المزمع عقده في تموز/ يوليو 2024 المقبل، وإذ تفصح المعطيات عن تزايد حظوظ ترامب في الفوز ضد منافسه الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تتزايد المخاوف داخل الولايات المتحدة وخارجها من تداعيات عودته المحتملة إلى السلطة.
فقد مثل صعود ترامب ونهجه، خروجاً على التقاليد المؤسساتية التي أرستها النخبة والتزم بها- أو ألزموا أنفسهم بها- الرؤساء السابقون الذين تعاقبوا على الإدارة الأمريكية من المشارب كافة، حتى من جانب نظرائهم الذين تسنموا الرئاسة وهم خارج دوائر صنع القرار الأمريكي، وأن فوزه، كما الحال في الولاية الأولى، لن يكون هزيمة لمنافسة الديمقراطي بايدن فحسب، بل وللنخبة الحزبية داخل الحزب الجمهوري، التي هيمنت مع نظيرتها في الحزب الديمقراطي، على الحياة السياسية، على مدى قرنين ونصف والتي بدت عاجزة عن الحيلولة دون ترشحه عبر ثني المندوبين إلى المؤتمر القومي الجمهوري من التصويت له، وقبلت على مضض ترشحه حفاظاً على وحدة الحزب وتماسكه، وهكذا لا يدين ترامب بالفضل بالفوز للنخبة في الحزب الجمهوري.
التداعيات لا تقف عند فوز ترامب
إن صعود ترامب، ممثلاً عن اليمين الشعبوي المتطرف، لم يكن وليد الصدفة ولا بمعزل عن التطورات التي شهدتها الساحة السياسة للولايات المتحدة الأمريكية على الأقل منذ غزو العراق 2003، فهو يمثل شريحة كبيرة من جمهور ناخبي الحزب الجمهوري وبعض المستقلين الذين أعادوا تقييم مواقفهم إزاء القضايا المحلية والخارجية، وتحولوا صوب العزلة، وهيمنت المخاوف المحلية على توجهاتهم، ونما تيار العزلة في السنوات الأخيرة داخل الحزب الجمهوري، واكتسب هذا التيار قوة وزخماً أكبر بالأزمات المتلاحقة، ولاسيما الأزمة المالية العالمية لعام 2008 وما أحدثته من أضرار على الطبقة الوسطى، نجح ترامب في تمثيل هذه الشريحة من الناخبين كما نجح بخطابه الشعبوي باستمالة عواطف الفئات المهمشة والأكثر فقراً، تعيد هذه التطورات إلى الأذهان التحولات التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في حقبة ما بين الحربين العالميتين إبان أزمة الكساد الكبير (1939–1929) ثم حرب فيتنام (1975–1954) التي نجم عنها تحولات في دعم الجماعات في الحزبين مازالت آثارها ماثلة إلى اليوم.
وبدت آثار هذه التطورات واضحة على توجهات الناخبين الجمهوريين بشأن السياسة الخارجية، ففي استطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو للشؤون الخارجية في تشرين الأول / أكتوبر 2023، والذي طرح سؤال ظل يطرحه على مدى نصف قرن مؤداه بشأن ما إذا كان من الأفضل أن تنغمس الولايات المتحدة الأمريكية بنحو مكثف بالشؤون العالمية من عدمه؛ دعم 6 من كل 10 أمريكيين ذلك (بنسبة 57%( دور نشط للولايات المتحدة الأمريكية في الشؤون العالمية فيما فضل البقية (%42) أن تنأى بنفسها عن الشؤون العالمية، وإذ تفصح هذه النتيجة عن دعم الأغلبية في أن تضطلع الولايات المتحدة الأمريكية بدور نشط، إلا أن النسب تؤشر إلى انخفاض مطرد في هذا الدعم مقارنة بالسنوات الأخيرة وهي من بين أدنى مستويات الدعم المسجلة في تاريخ استطلاعات الرأي للمجلس الممتدة على مدى 49 عاماً. ولعل اللافت في ذلك آراء مؤيدي الحزب الجمهوري حيث أيد (%53) بقاء الولايات المتحدة الأمريكية خارج الشؤون العالمية، بينما دعم (%47) دوراً نشطاً فيها.