عمّار ياسين – باحث في دراسات السّلام والصّراع
في تصرُّف يمكن وصفه بالمغامرة غير المحسوبة؛ قام يفجيني بريجوچين، قائد مجموعة فاجنر شبه النظاميّة غير المعترف بها رسمياً والمشارِكة بقوة في العملية العسكريّة الروسيّة الممتدة في أوكرانيا، بالتصعيد عملياتياً وعدم الاكتفاء فقط بتوجيه انتقادات لاذعة للقيادة العسكريّة الروسيّة ولشخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل قام بالتحرُّك العكسي إلى الداخل الروسي والسيطرة على بعض المنشآت العسكريّة في منطقة روستوف، مُعلناً حالة التمرُّد والتهديد بمواصلة التّصعيد بالتوجّه مُباشرةً نحو العاصمة موسكو.
على الرغم من استحواذ «مُغامرة بريجوچين» على اهتمام العالم ومُبالغة البعض في تقدير ما يحدث حينذاك بأنه مخاض عملية انقلاب واسعة النطاق في روسيا ستُغيّر من خريطة الصّراع الروسي-الغربي برُمّته؛ إلا أنّ الأمر لم يدُم إلا حوالي 24 ساعة فقط وسط حالة مُزدوجة من ضبط النّفس والتحرُّك الحذر للغاية من الطرفين طوال ساعات الأزمة، حتّى تم الإعلان عن مُبادرة شخصيّة من الرئيس البيلّاروسي ألكسندر لوكاشينكو من أجل الوساطة بين بوتين وبريجوچين من أجل إنهاء حالة التمرُّد، إلى أن نجحت الوساطة البيلّاروسيّة بعد ساعات في تسوية الموقف من دون إطلاق رصاصة واحدة من طرفي الأزمة.
بُنود مُعلنة وأُخرى سريّة بطبيعة الحال
تم الإعلان عن بنود مُحددة لتسوية الأزمة صدّق عليها كل من بوتين وبريجوچين تباعاً، ولعلّ أهم تلك البنود: إنهاء حالة التمرُّد على الفور واستضافة بريجوچين في بيلّاروسيا وعودة قوات فاجنر إلى مُعسكراتها خارج روستوف، في مُقابل عدم المُلاحقة الجنائيّة الروسيّة لبريجوچين ومَن شارك من جنوده في حالة التمرُّد، مع فتح الباب أمام من لم يُشارك من فاجنر للانضمام لصفوف القوات الروسيّة النظاميّة بواقع تعاقدات مع وزارة الدفاع الروسيّة ومن ثم الاندماج بصورة مُقننة وتوفيق الأوضاع.
ولعلّ ما يُعضّد من تصوُّر وجود بنود أُخرى لم يتم الكشف عنها إجابات لم تظهر بعد عن تساؤلات عديدة يأتي على رأسها: لماذا أتت الاستجابة سريعة ومُرحّبة بهذا الشّكل من كلا الجانبين تجاه عرض وساطة بيلّاروسيا؟ ما هي الوعود والضمانات التي حصل عليها بريجوچين في مُقابل قبوله إنهاء تمرُّده في الحال والذهاب لبيلّاروسيا؟ ما هي طبيعة استضافة بيلّاروسيا لبريجوچين وقوات فاجنر المُشاركة في حالة التمرُّد؟ ولماذا تُقدِم بيلّاروسيا على هذه الخُطوة في ظل كونها محميّة بصورة غير مُباشرة من روسيا وداعمة أساسيّة لها في عمليتها العسكريّة في أوكرانيا؟ ما هي انعكاسات أداء بيلّاروسيا لدور الوساطة بين الجانبين على علاقتها بجيرانها الأوروبيين والغرب بصفة عامة؟ وما الذي سيُعوّضها عن توتير مُحتمل لعلاقتها بجيرانها الأوروبيين نتيجة وساطتها؟ كل هذه التساؤلات وأكثر تُحتّم وجود بنود غير مُعلنة لم يتم الكشف عنها لاعتبارات تخص كل الأطراف على حد سواء؛ رد اعتبار بوتين على ما حدث، ومنح بريجوچين نفوذ أكثر بعد تحييده، وتوفير ضمانات تحفظ أمن واستقرار بيلّاروسيا محلياً وإقليمياً.