تمهيد
تُعدُّ التكنولوجيا الأداة الأبرز من أدوات التطور والتقدُّم للدول، ثم أصبحت في العقود الأخيرة واحدة من أهم مقومات قوة الدول، ومَن يملكها فقد امتلك مفاتيح عوامل القوة الأخرى. ويعود السبب في محورية هذا الدور إلى أنَّ التكنولوجيا لم تُعد مهمة لذاتها فحسب، وإنَّما لدورها في مضاعفة حجم عوامل القوة الأخرى وتأثيرها أيضاً، وكل ذلك جعل الدول تتنافس على تحقيق أفضل الأرقام في الإنجازات العلمية، وتخصص مبالغ كبيرة من موازناتها في سبيل الإنفاق على قطاع البحث والتطوير؛ لأنَّه المحفِّز الرئيس للابتكار والتطوير التكنولوجي في مختلف المجالات، ومن شأن إحراز مكان متقدم في السباق المعرفي والتكنولوجي أن يمنح الشعور بالاطمئنان للدور والمكانة الدولية للدول في إطار النظام الدولي، ويمكنها من فرض شروطها التنافسية على الآخرين، بل حتى التحكُّم بمسارات قوتهم المستقبلية قسراً أو رضاءً.
أصبحت التكنولوجيا مؤدِّيةً دوراً حاسماً في عملية التغيير على المستوى الدولي بعد ما أسلفناه عن دخولها كعامل للقوة ومعيار تفضيل لعوامل القوة الأخرى، وهي تسهم -بهذا الوصف- مساهمةً مباشرةً وفعالةً في تغيير طبيعة الفواعل الدوليين، وتغيير أنماط التفاعل بين هذه الفواعل، وأخيراً تغيير قواعد السيطرة وصورتها داخل النظام الدولي انطلاقاً من معطيات تكنولوجية تُوظَّف في بنية عناصر قوة الدول، فضلاً عن ذلك أدركت الولايات المتحدة الأمريكية والصين هذه الحقائق إدراكاً جلياً، فالأولى هي القطب المتفرد والأقوى عالمياً خصوصاً على المستوى التكنولوجي، والصين هي قطب صاعد بقوة؛ يسعى إلى تحقيق ما يمكن تسميته بالإزاحة القطبية، وهو أمر يتوقعه القطب الأمريكية نفسه مع دخول العقد الثالث من القرن الحالي، ولهذا السبب تشتد المنافسة بين الطرفين، وبصورة لا يدخر فيه وسعاً أو مالاً أو مواجهة تجارية وسياسية وإعلامية، وفي إطار هذه المنافسة المتحتمة تنفق الولايات المتحدة الأمريكية اليوم مزيداً من مواردها على قطاع التكنولوجيا، ولا سيَّما في مجال التكنولوجيا العالية التقنية في مواجهة الإستراتيجية الصناعية التي أطلقتها الصين والمعروفة بإستراتيجية (صُنِعَ في الصين 2025)، والتي مكَّنتِ الصين من تطوير قدراتها في مجال التكنولوجيا العالية التقنية، ممَّا جعلها متقدمة في المجالات العسكرية والاقتصادية، وفي مجال الفضاء الخارجي، لذا تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على تفوقها في مجال الفضاء الخارجي في مقابل صعود الصين وروسيا وتمكنهم من إنشاء قوات فضائية يمكن أن تؤدِّي مهام عسكرية في الفضاء، ومن ثَمَّ دفع الولايات المتحدة الأمريكية بالمقابل إلى إنشاء القوات الأمريكية الفضائية، ممَّا سيغيِّر من موازين القوى على مستوى النظام الدولي، ويرفع مستوى الصراع بين القوى الدولية إلى أبعاد جديدة تتجاوز حدود البر والبحر والجو إلى الفضاء الفسيح وتوظيفه في خدمة صراع الكبار من أجل القوة العالمية.
مكَّنَ الصعود السريع للصين وتمكنها من زيادة إنتاج براءات الاختراع على مستوى سنوي إلى أربعة أضعاف ما تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية من اللحاق بسرعة بركب التطور التكنولوجي الأمريكي، لذا فهي الدولة الأكثر تنافسيةً مع الولايات المتحدة، والتي تهدد مكانة الأخيرة كرائدة للتطور التكنولوجي على مستوى النظام الدولي، ممَّا دفع الولايات المتحدة إلى اتباع إستراتيجية الحرب التجارية بالتوازي مع إستراتيجية الاحتواء.
وبفعل تزايد حدة الصراع بين الطرفين، فإنَّ احتمالية تصاعد حدة المواجهة بينهما لترتقي إلى حدود المجابهة المسلحة هو أمر وارد تدعمه تقارير سياسية وعسكرية ودراسات خبرة يقدمها المختصون في هذا الشأن، فضلاً عن المخاطر الكبيرة لمثل هذه الاحتمالية، وصعوبة حتى التفكير فيها لما لها من انعكاسات كارثية ليس على طرفي المنافسة فحسب، وإنَّما على البشرية جمعاء، ولكن في كل الأحوال يظل الاحتمال وارداً حتى إن لم يكن في صيغة حرب شاملة بين الطرفين، وإنَّما على صورة حروب بالنيابة، أو حتى حروب محدودة تستهدف تعزيز الموقف والموقع في مواجهة الخصم بين الحين والآخر، وفي حالة تحقق مثل هذا الاحتمال فإنَّ التغيير في صورة النظام الدولي ومراكز القيادة والسيطرة فيه ستتغيَّر هي الأخرى تبعاً للمخرجات التي ستتمخض عنها مثل هذه الاحتمالات، وبناء على ذلك كيف سيؤثر التنافس التكنولوجي ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي» وهل تؤدِّي التكنولوجيا بالفعل مثل هذا الدور في تغيير موازين القوى ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؟