عبدالله ناهض عباس – باحث
أولاً: تمهيد
ربما تُعدُّ العلاقات بين الدولتين الجارتين العراق والأردن من بين أكثر العلاقات التباساً، إذ توجد مشتركات عديدة بين الجانبين، ومصالح متبادلة، وحاجة ماسة لبعضهما بعضاً، وفي الوقت نفسه يوجد تقاطع في الجوانب الإستراتيجية والتحالفات الإقليمية، ولا سيَّما بعد العام 2003، وما الذي يريده كل طرف من الآخر، فالمصالح المشتركة بين البلدين لم تخلق تفاهمات سياسية وإستراتيجية مشتركة ثابتة وبعيدة الأمد، ولعل السبب في ذلك يرتبط بالعراق وأزماته الداخلية أكثر من ارتباطه بالأردن؛ انطلاقاً من فرضية أنَّ العراق يعاني من ارتباك في هُويته الإستراتيجية.
وقد لا نبالغ إن قلنا إنَّ العراق بلا هُوية إستراتيجية، فحكوماته لا تعرف في معظم الأمر ما تريد، ويرزح قرارها السياسي الخارجي تحت وطأة التقلبات السياسية الجذرية التي يشهدها العراق بين مدة وأخرى، ممَّا أدَّى إلى ضياع كثير من الأوراق العراقية المهمة والمؤثرة في مصيره وبقائه، سواءً أكانت تلك التي تربطه مع الجانب الأردني، أو تلك التي تربطه مع سائر جيرانه، والعالم أجمع، فالسياسات الخارجية ما هي إلا امتداد للسياسات الداخلية، ولا يوجد فصل بينهما، والهُويات الإستراتيجية تصنع وتُبْنَى داخل البلاد، ومن ثَمَّ تنطلق نحو الخارج؛ لتعكس الرؤية الداخلية التي تنتهجها الدولة، وترغب بنقلها إلى أرض الواقع.
وقد يعلم المهتمين بالشأن الإستراتيجي العراقيّ، إذ إنَّ العراق يصنِّف من بين الدول شبه الحبيسة جغرافياً، أو حتى حبيسة بالكامل، قياساً لحجم إطلالته البحرية الضئيلة التي تمتد لبضع كيلومترات، وهي نحو (60) كلم، والتي لا تتناسب مع حجمه الجغرافي، ولا مصالحه أو تطلعاته. فرض هذا القدر الجغرافي على العراق أن يحسب كل خطوة يخطوها بدقة متناهية، في ظل جوار جغرافي متعدد وصعب، وتحكمه مصالح متناقضة، تختلف في كثير من الأحيان مع المصالح العراقية، وفي الوقت نفسه تستثمر دول الجوار نقطة الضعف العراقية، أي: هشاشته الجيوبولتيكية، والمتمثلة بوصفه دولة برية تعاني من إطلالة بحرية صغيرة لا تناسب حجمها، ومن ثَمَّ فهو بحاجة دائمة إلى هذا الجوار، وهذه الحاجة تدفعه في بعض الأحيان إلى التنازل عن بعض مكتسباته في سبيل تمضية جزء من مصالحه، ولا سيَّما تلك المتعلقة بالوصول إلى البحار، والعالم الخارجي.
الهشاشة الجيوبولتيكية والحاكمون: عقدة الممكن والمستحيل
لقد أشار عدد من الباحثين إلى إدراك صنَّاع القرار العراقي، في الدولة العراقية الحديثة التي قامت عام 1921 لمدى المعضلة التي تعاني منها البلاد على الصعيد الجيوبولتيكي، والمتمثلة بعدم وجود منفذ بحري مناسب للعراق، فسعوا للبحث عن حلول لهذا المأزق التاريخي الصعب، هو صعب، لارتباطه بالثوابت الجغرافية، التي يكاد أن يكون تغييرها مستحيلاً، وقد يكون اجتياح الكويت عام 1990 يرتكز بجزء منه على هذا المسعى الرامي إلى تجاوز الهشاشة الجيوبوليتكية للعراق، إلا أنَّ الاجتياح جوبه بشدة معروفة، وانسحب الجيش العراقي من الكويت وتقهقر البلد؛ بسبب ذلك القرار غير المحسوب ولا المدروس، الذي تجاهل أنَّ الدول الأخرى ولا سيَّما المهيمنة على النظام الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لن ترضى بتغيير معالم الدول بالقوة، ولا سيَّما في منطقة مهمة مثل منطقة الخليج العربي، فضلاً عن أنَّ غزو الدول الأخرى مرفوض، وعلى كل الأصعدة مهما كانت المبررات والمسوغات.
ولقد حاول رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي (نوري السعيد)، إيجاد الحلول السلمية والدبلوماسية لهذه الإشكالية المعقدة، عبر اللجوء إلى عرض المشاريع الاتحادية، أو الوحدوية، مثل مشروع الهلال الخصيب، أو الاتحاد الهاشمي، مع اعتقاده أنَّ مشروع الاتحاد الهاشمي تحديداً، ربما يشكِّل عبئاً اقتصادياً على العراق، على أساس أنَّ الأردن دولة فقيرة اقتصادياً؛ ممَّا سيؤدِّي إلى أن تعتمد اعتماداً كبيراً على الموارد العراقية، بدليل أنَّ الاتحاد اعتمد بنسبة (80%) على العراق من ناحية تأمين ميزانيته؛ إلا أنَّ انعدام الحلول الأخرى بشأن العقدة الجيوبولتيكية، دفعت صانع القرار للبحث عن مثل هكذا مشاريع، يمكن لها أن تفك الخناق عن العراق، وصولاً إلى دعوة الكويت للانضمام إلى هذا الاتحاد، إلا أنَّ الانقلاب/الثورة على النظام الملكي العراقي في تموز عام 1958 أنهى هذا المشروع.