مقدمة
أعلنت طهران والرياض الاتفاق في 10/3/2023 من العاصمة الصينية على عودة العلاقات بين البلدين في غضون شهرين -وسنرى لماذا شهرين؟!- من تاريخ الاتفاق الموقَّع بين البلدين برعاية صينية، ممَّا أثار ردوداً ومواقف دولية تراوحت بين الترحيب بالاتفاق على أمل أن يؤدِّي إلى التهدئة في المنطقة وبين موقف أمريكي رسمي مرحب بحذر ناجم عن رعاية الصين للاتفاق، ومشككاً بوفاء إيران بالالتزامات المترتبة على الاتفاق الذي رأت فيه أوساط المحللين في واشنطن اختراقاً دبلوماسياً لصالح (بيجين) في منطقة لطالما تميَّزت بطغيان النفوذ الأمريكي.
مع أنَّه من المبكِّر الحكم على الاتفاق (الذي كُتِبَ بالعربية والفارسية والصينية، ولا توجد نسخة منه بالإنكليزية)، فيما إذا سينهي حالة التوتر والصراع بين طهران والرياض، فضلاً عن تقييم الرعاية الصينية للاتفاق، وفيما إذا كانت تشكل اختراقاً ونصراً دبلوماسياً حقيقياً لبيجين، إلا أنَّه يمكن القول إنَّ معظم التحليلات التي تناولت الاتفاق خلطت بين الأسباب والنتائج، وبين الوساطة الصينية للاتفاق وبين الاختراق الدبلوماسي الصيني في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك خلط ناجم بدوره عن سوء فهم قاد هذه التحليلات إلى إهمال السياق الزمني الذي جاء فيه الإعلان عن الاتفاق وتزامنه مع قيام المملكة العربية السعودية بالتفاوض؛ للالتحاق بالاتفاقيات الإبراهيمية (أي: التطبيع مع إسرائيل) بوساطة أمريكية كما سنتبين لاحقاً، والتي تزامنت بدورها مع أكبر مناورات عسكرية أمريكية-(إسرائيلية)، ومن ثَمَّ أهملت هذه التحليلات نيات الرياض من توقيت الموافقة على الاتفاق.
كما أنَّ سوء الفهم هذا والتفاؤل المفرط ربما قاد هذه التحليلات أيضاً إلى اختزال الملفات الساخنة في الشرق الأوسط بالصراع السعودي الإيراني الذي –مع أهميته– لا يشكِّل ولا يمكن به أن نختزل الصراعات في منطقة الشرق الأوسط، فهي من التداخل والتعقيد أكبر من أن تختزل بملف واحد مهما بلغت أهميته من جهة أخرى.
بلغ الملف السوري –على سبيل المثال–من التعقيد أنَّ التحالفات بين الفاعلين الدوليين والإقليميين في تغيير مستمر والمواقف متقلبة إلى درجة أفقدت المحللين والمختصين بشؤون المنطقة البوصلة التي ترشدهم في فهم المواقف الإقليمية والدولية حيال الأزمة السورية! فنرى الدول التي كانت تسعى لإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وباتت ترسل رسائل تشي بقرب عودة العلاقات مع سوريا التي ما يزال رئيسها بشار الأسد. وإيران وروسيا، مع مظاهر التحالف بينهما في سوريا إلا أنَّ التنافس بينهما على النفوذ في دمشق على أشده1، ممَّا يتضح في عدم تصدِّي الدفاعات الروسية في دمشق للطائرات (الإسرائيلية) التي تقصف بصورة متكرر أهدافاً إيرانية في سوريا، وهو ما يؤشر بدوره إلى ارتياح روسي لكل ما من شأنه احتواء نفوذ طهران في دمشق، فضلاً عن احتمال وجود تنسيق مسبق بين موسكو و (تل أبيب) بهذا الخصوص. لذا، تكشف تعقيدات الملف السوري عن أنَّ الشرق الأوسط أكبر وأعقد من أن يُخْتَزَل باتفاق يثار كثيراً من التساؤلات حول زمانه (توقيته) ومكانه، ودوافع كل طرف فيه، وخصوصاً طهران والرياض، فضلاً عن إمكانية صموده بوجه الوقائع التي سنتحدث عنها لاحقاً.
ويتضح الخلط في هذه الطروحات والتحليلات في النتائج التي خرجت بها، ونذكر منها أنَّ بعضهم ذهب إلى أنَّ توقيت الاتفاق ناجم عن أنَّ الضغوط الدولية على طهران قد عزَّزت قناعة كل من طهران والرياض بأنَّ الظروف باتت مؤاتية للاتفاق على عودة العلاقات بين البلدين، فطهران مجبرة بحكم ظروفها على التسليم بشروط الرياض والأخيرة وجدت في ضعف طهران وعزلتها الفرصة المناسبة لفرض شروطها. هذا التحليل أقل ما يقال عنه أنَّه سطحي ومضلل إلى حدٍّ ما، لأنَّه أغفل حقائق سنسلط الضوء عليها لاحقاً.
لذا، وللوصول إلى قراءة دقيقة للاتفاق لا بدَّ من وضعه في سياق يستهدف بالتحليل تطورات سبقت ورافقت الاتفاق قد تنسف النتائج التي خرجت لها معظم التحليلات التي تناولت الاتفاق. سنحاول في هذه الورقة تشخيص هذه التطورات وأثرها على الاتفاق نفسه عن طريق الإجابة عن التساؤلات الآتية: هل يشكل الاتفاق اختراقاً دبلوماسياً صينياً في الشرق الأوسط؟ وإنَّ الاتفاق إستراتيجي أم تكتيكي؟ ولماذا الآن؟ وأين العراق من هذا الاتفاق؟ أو بعبارة أدق ما تداعيات الاتفاق على العراق؟