back to top
المزيد

    علاج المشكلة بالأزمة: المحتوى الهابط في وسائل التواصل الاجتماعي في العراق بين المجتمع والقانون

    حيدر عبد المرشد- باحث
    مدخل
    أثار إعلان وزارة الداخلية العراقية عن إطلاقها حملة لمكافحة ما اسمته (المحتوى الهابط) على وسائل التواصل الاجتماعي ردود فعل متباينة كما هو الحال عليه في العراق مع أي قضية تتعلق بالشأن العام، الإعلان الذي رافقه إطلاق منصة إلكترونية للتبليغ عمَّا يراه الناس محتوًى هابطاً في وسائل التواصل في العراق، والذي تعزَّز بالإعمام الذي وجَّهه رئيس مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 8/ 2/ 2023، والذي صب في ذات المسار، فضلاً عن احتوائه لتعريف واسع يحتمل التأويل حول ما يُساءَل عنه، إذ وردت فيه فِقْرَة جرَّمت «الإساءة المتعمَّدة، وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمسميات»، وكما هو واضح فإنَّ هذه الفقرة قد تُؤوَّل على غير مقاصد رئيس المجلس، وقد تمتد إلى الحريات العامة المتعلقة بالرأي السياسي والنقد للسياسات العامة للبلد، الذي يُعدُّ من صميم عملية رسم السياسات العامة وتنفيذها.
    وكما هو متوقَّع، حالما بدأت وزارة الداخلية بتنفيذ حملة اعتقالات لمن بُلِّغ عن محتواهم بوصفه هابط، أُثِيرَ لغط كبير على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية تلك الاعتقالات، خصوصاً أنَّها طالت شخصيات مغمورة، أو وقع تحت طائلتها أشخاص يقدِّمون محتوى هزلياً يسيراً لا يمكن أن يوصف بأنَّه هابط، وتساءَل كثيرون عن سبب عدم شمول بعض من «المؤثرات» في وسائل التواصل ممَّن يتلفظْنَ بالشتائم النابية علناً، فضلاً عن الربط بين الفساد الإداري والتعثُّر في مكافحته، خصوصاً في ظل استمرار اللغط بشأن ما أُطْلِقَ عليه اسم فضيحة صفقة القرن التي دارت حول سرقة أموال الائتمان الضريبي.
    بكل الأحوال، تحاول هذه الورقة تقديم إحاطة بالموضوع، وما يكتنفه من مشكلات، سعياً إلى تقديم مقترحات واضحة بهذا الشأن.
    أولاً: المحتوى الهابط… نسبية المفاهيم
    من البديهي أنَّ أيَّ مفهوم اجتماعي يواجه مشكلة النسبية في تحديد معناه، والاتفاق على تعريفه، ويشكِّل المحتوى الهابط بوجه خاص موضع اختلاف كبير في تحديد ماهيته، وما الذي يمكن أن يوصف بأنَّه أخلاقيات هابطة، تبعاً لمعايير المجتمع، أو المؤسسات الاجتماعية المؤثِّرة.
    ولا يكاد يختلف أحد على أنَّ نسبية الأخلاق تتغيَّر بتغيُّر المجتمعات، وما تؤمن به من منظومة ثقافية، وحتى داخل المجتمع الواحد، تختلف باختلاف المجموعات الثقافية ومتبنياتها، ولكي يُتَعَامل مع موضوع بهذه الخطورة، لا بدَّ من أن يسبقه حوار اجتماعي واسع يصل إلى الحد الأدنى من الخلاف لتحديد معيار واضح لا يحتمل التأويل لما يكون محتوى هابطاً مرتبطاً بأخلاقيات هابطة.
    ويفترض هذا ألَّا تكون هناك جهة واحدة تحدِّد بمفردها ما يمكن أن يكون هابطاً، وينتج عنه محتوى هابطاً، في ظل ثقافة معولمة، وانفتاح لا حدود له على العالم؛ سبب تلاشٍ للمركزيات الثقافية، وانعدام للحدود، وصعوبة في الانكفاء على الذات الجمعية، خصوصاً إذا كانت تلك الجهة هي جهاز الشرطة، الذي يعاني بدوره في العراق من مشكلات لا أول لها ولا آخر، واتهامات بالفساد عبر تقارير حكومية رسمية.
    من جانب آخر، وفي مجتمع يشهد تناقضات شديدة مثل المجتمع العراقي، فإنَّ آلية التبليغ بحد نفسها تنطوي على خطورة كبيرة، تمكن مجموعة ثقافية، أو جماعة دينية منظمة بصورة جيدة، تمكِّنهم من قيادة حملة تبليغات لوصف محتوى ما بأنَّه هابط، وَفْقاً لمنظومتها الثقافية الفرعية، ممَّا سيصطدم بالحريات التي كفلها الدستور من جانب، وبواجب الدولة بحفظ النظام عبر أسس صحيحة غير خاضعة للشعبويات، ولا تنساق خلف آراء مجموعة على حساب مجموعة أخرى، مع ضرورة حفظ المنظومة الأخلاقية العامة المتعاهد عليها، والتي انبثق عنها الدستور في الوقت نفسه.
    من جانب آخر، فإنَّ ظاهرة اللاعقلانية والهبوط في المحتوى المرئي لا تقتصر على العراق وحسب، بل هي ظاهرة عالمية، ترافقت مع الشعبوية السياسية، والاضطرابات الاجتماعية على مستوى العالم، توجد مجموعات تدعو للانقلاب على النظم السياسية الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة، ومحتوى أتاح لكل من هبَّ ودبَّ أن يقول ما يريد على وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة قادت عالم الرموز والروائي الإيطالي الراحل (أمبرتو إيكو) أن يقول إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي (تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممَّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبَّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يُسْكَتون فوراً، أمَّا الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَن يحمل جائزة نوبل، إنَّه غزو البلهاء)، ممَّا يعني أنَّ هذه الظاهر العالمية بتجليها العراقي لا يمكن أن تحل في ظل تراجع تنموي، وانخفاض في مستويات التعليم، وارتباك اجتماعي كما نشهده في العراق لا يمكن أن تحل بوسائل «شرطوية» ترتكز على بنية قانونية منقوصة من الأساس.

    لقراءة المزيد اضغط هنا