ياسر غالب أحمد – باحث
إنَّ انعدام شرعية المجتمع في قراراته، وتدخلاته، وتقويمه لنفسه وَفْق الصياغات الإنسانية العامة سواءً كانت (ثقافية، أم اجتماعية، أم سياسية، أم اقتصادية) في إقليم معين، سيعني للمجموع السكاني في هذه الأرض أنَّها تتبِّع شرعية أخرى، وهذه الشرعية الأخرى هي عدم المعرفة بمعاني التضامن والترابط والاشتراك الجماعي في اتخاذ قرارات معينة، فانعدام هذه المعاني في وجودها كمعنى وتطبيق سوف يعطي شرعية وتبرير للسلطة، وهنا سوف تكون انحرافات عامة، وبهذا سوف تدمر شرعية الشعب وحدوث انقلابات في الثقافة تسير في الاتجاه السلبي عن طريق استفراد السلطة، وثانياً يؤدِّي طغيان السلطة إلى الحد الذي ينشأ أجيال طوعية على العبودية. وهذا ما تعاني منه اليوم المجتمعات النامية عموماً، والمجتمع العراقي خصوصاً، فهو يعطي شرعية للسلطة القائمة من لا وعي، أو من وعي ديني وعاطفي رخو، ويفتقر هذا الوعي إلى التضامن والاشتراك الاجتماعي، وهيمنة النزعة الطائفية على المجتمع؛ ممَّا يجعل التفكير وإعادة التقويم لصالح المجتمع في نطاق ضيِّق جداً.
يوجد مفهومان في فلسفة تاريخ الحضارة وترجع هذه المفاهيم إلى المؤرخ وفيلسوف التاريخ (أرنولد تونبي) يفترض معناها أنَّ تاريخ كل شعب يمر وَفْق هذين المفهومين في انحطاط هذه الشعوب ونهضتها، وهما مفهوما القدمية والمستقبلية.
كان الغرض العلمي من هذا المصطلح الذي طبَّقه (تونبي) هو معرفة أسباب نشوء الحضارة، وتردِّيها، وكيفية تفكير الشعوب بعد أن تنهار الحضارة .
كيف يمكن أن تفحص هذين المفهومين في السياق العراقي؟
حينما سقطت الحكومة الملكية العراقية في انقلاب 14 تموز 1958 على يد الجمهوريين ظهر نوع من التأجيج العاطفي الجماهيري، يصفِّق للقائد عبدالكريم قاسم، وفي الوقت نفسه أيضاً كانت هناك تيارات ضده وتيارات أخرى محافظة تريد إرجاع العهد الملكي، وعند مقتل عبدالكريم قاسم في عام 1963 وبعدها استلم عبدالسلام عارف الحكم، وظهور سمعة الحرس القومي السيئة، تولدت القدمية في نفوس الجماهير في الحزن والبكاء على العهد الملكي، وعهد عبدالكريم قاسم، وكذلك وصولاً إلى سيطرة البعثيين عام 1968 وعلى هذا المنوال كلَّما تنهار دولة فاسدة وتأتي دولة فاسدة بعدها، يكون هناك حزن وبكاء على حياة الماضي في تلك الدولة، وهذا ما يلاحظ عند البحث بالملاحظة كسلوك عند كبار السن ممَّن عاصروا تقلُّب الحقب.
لكن ما عاصرناه وما قرأناه عن تلك الحقب هو يشكِّل تغيُّراً كيفياً وكمِّياً، أو هو وصول مصطلح القدمية الاجتماعية إلى الطور الأخير منه.
حينما تولَّى صدام حسين حكم العراق عام 1979 بدأت حالة مختلفة في المجتمع العراقي، فمن أحزاب سلطوية حاكمة إلى شخص دكتاتوري فيه كل سمات الطغاة، والنَّفَس الإجرامي الهدَّام للمجتمع، إذ يقولب المجتمع إلى قالب مفروض ينسجم مع أطروحة القائد وصراعاته النفسية التي تجعله يفرض هذا النموذج السلطوي على الآخرين.
بعد عام من توليه السلطة نشبت الحرب العراقية الإيرانية، واستمرت الحرب ثمان سنوات من القتل والدمار راح ضحيتها أكثر من مليون جندي من الطرفين، ثم بعد هذه الحرب الطويلة دخل صدام حرب الكويت وحصل ما حصل، وبدأ الناس يحزنون، ويبكون على الرئيس السابق لصدام وهو أحمد حسن البكر، وأيضاً حصل ما حصل في فترة التسعينيات من جوع وحصار وموت أكثر من خمسمئة ألف طفل عراقي، وكلها نتيجة أخطاء القيادة السياسية الفاشلة، والتمسُّك بالسلطة على حساب المجتمع.