ياسر غالب أحمد مصطفى – باحث
يمكن القول إنَّ ممارسة السياسية بحد ذاتها تُعدُّ أمراً سامياً -أقول سامياً- ليس لأنَّها فعل أخلاقي، بل لأنَّها فعل يضمن مصالح الآخرين، وينظمهم، ويعطيهم أفق التأثير بالآخر بوصفهم جماعة قانونية، وإنسانية، فالسياسية بهذا التوصيف، وبأنَّها علمٌ، وفنُّ بناءٍ، لا يمكن للجهد الإنساني التخلِّي عنه؛ لأنَّها قاعدة ضرورية لتنظيم البشرية فهي علم إقامة الصرح المسمى بالدولة، وهي فن إدارته، ما دامت السياسة صالحة ضامنة وقوية ومتينة فإنَّها خير موجود لا بدَّ منه، وبخلافها تحدث الفوضى، ويتنزَّل كل بناء شامخ إلى كومة من التراب. ليس الهدف هنا هو تنزيه السياسة من الفعل السيِّء الذي يمارسه بعضهم بطريقة هدَّامة، بل الهدف هو هدف عملي، يرمي إلى بناء ناتج من واقع وفترة تاريخية معينة تنظر إلى حالة شعب معين بوصفه تجربة تاريخية حاضرة لافتة للانتباه على صعيد مناطقي وإقليمي، ونركِّز هنا على التجربة السياسية في العراق بعد عام 2003.
إنَّ إنشاء مفهوم إيجابي للسياسة هو من أكثر المهام الفكرية إلحاحاً في الوقت الذي نحتاج به إلى الخروج من المأزق العراقي الحاضر، ومعرفة المشكلات الاجتماعية التي تمثِّل مشكلاً عنيفاً أمام كل تحرُّك، وذلك في سبيل تأسيس فهم مقبول لسياسة ناجعة؛ لدرجة أنَّها يمكن أن تضع الأهداف موضع التحقيق والتحديث، إذ تشتمل السياسة على مفاهيم معقَّدة، ومشكلات أساسية مثل صراع القيم، وأسلوب إدارة الحُكم، والفلسفة التي تخضع لها (مقدَّسة أو زمنية)، والسياسة كعلم تتجاهل مشكلات صراع القيم بوصفها لا تتعلَّق بالعلم، والحجة التقليدية في هذا الصدد هي أنَّ العلم حيادي خالٍ من القيم الأخلاقية، وأنَّه يمكن استخدامه في خير أو شر، والحجة الأخرى أنَّ السياسة هي ذات منحًى نفعي؛ لأنَّها ترتبط بغايات فنية متعالية. وفي الوقت الذي تمثِّل وتشكِّل فيه السياسة آفاقاً معرفية وإنسانية تعالج صراع القيم الاجتماعية المتناقضة في سبيل نظمها في مسار واحد، ولكن -ولأنَّها سلوك ومسؤولية- فهي تنطوي في ذاتها على قيم أخلاقية وغير أخلاقية، مع الإقرار بنسبية الأخلاق، وعلى كلِّ الأحوال، لا نستطيع أن نتنازل عن التحضُّر الذي تصنعه السياسة بوصفها الأداة التي تصنع الحضارة، فالسياسة هي روح (الدولة)، فإمَّا أن نستخدم معرفتنا بهذه الروح في تدمير الحضارات (المجتمعات)، أو في تدعيمها، وفهم مقوماتها الأساسية، إذ لا بديلَ عنها.
يخلق تركيز الإنسان له على موضوعة السياسة من وجهة نظر الضرورة التاريخية قبل كل شي تصوراً عاماً، وهو أنَّه لا وجود لحضارة أو مجتمع مدني خلَّاق بِلا سياسة مدروسة خاضعة لإستراتيجيات مستقبلية، ولا وجود لإصلاح نسبي، أو جذري بِلا هذه السياسة، وحتى لا يوجد عمل فردي لذاته بِلا سياسة، ولو أردنا أن نفهم السياسة بوصفها جوهراً للعمل الإنساني فإنَّ جميع الناس مفكِّرون وسياسيُّون سواءً علموا أم لم يعلموا، فمفاهيم مثل الحرية، والحق، والعدالة، والمساواة نستخدمها في حياتنا اليومية تعبيراً عن مشاركتنا في المجال العام، وهذه بعضها مسلمات ذهنية، ومعارف اجتماعية، تكون مرتبطة بالحدث، ومكانه وزمانه، فهي أسئلة فلسفية يعرضها المواطن، لكن لا يمكن أن يجيب عليها إلا عن طريق المشاركة السياسية، إذ تشتمل السياسة على تعقيدات؛ لأنَّها تخضع إلى الأشخاص والمنظومات والمؤسسات، وهي وسيلة وغاية تفاعلية تواصلية، وأهم لغاتها هي لغة الحوار والقوة، ومن السهل جداً تطبيق علم الكيمياء الحيوية لجعل الأفراد أكثر صحة من تطبيق علم السياسة، بغرض إنشاء مجتمع صحي، والسبب في ذلك أنَّ الجميع يتفقون على ما يبدو عليه الشخص المريض، أمَّا تطبيق السياسة فلا يوجد فيها إجماع على أمر محدَّد أو هدف ما، بل توجد فيها المصالح العامة إذا كانت السياسة صالحة، والمصالح الخاصة إذا كانت السياسة طالحة، وكل له صفات وَفْق استعمال هذا المفهوم وتطبيقه، ومع ذلك تُعدُّ المشكلات الأخلاقية لهذه الأهداف منفصلة عن المشكلات العلمية من حيث كيفية عمل الأهداف والنتائج.
إذا أردنا الدخول بالواقع السياسي العراقي، والعمل على إقامة رؤية واقعية ودقيقة لمفهوم السياسي العراقي بوصفه أزمة سياسية ساهمت في تشويه مفهوم السياسة؛ فينبغي قبل كل شيء أن نعرِّف السياسة بوصفها علم الواقع، وفن إدارته عن طريق كيانات الدولة وسلطاتها، فللسياسة تعريف عام وخاص بوصفها علماً وفناً وإدارة، ولو أردنا أن نجمعها بتعريف جامع شامل سنعرفها بأنَّها آفق عقلي وتطبيقي، وبأنَّها: علم الحكم وفنِّه، وهو العلم الذي يتعامل مع صورة الدولة، وتنظيم إدارتها، أو جزء منها طبقاً لقوانين هذه الدولة، فضلاً عن تنظيم علاقاتها بالدول الأخرى، وهي وسيلة لحكم المجتمعات المنقسمة على نفسها عن طريق نقاش حر، ومن دون عُنف غير مبرَّر، وهي فن، أو علم الشؤون العامة، والسياسة بالمعنى الواسع هي علم حكم الدول، كان أرسطو يضع علم السياسة فوق سائر العلوم؛ لأنَّه على رأس ما عداه من نشاطات إنسانية.