عماد صلاح الشيخ داود– أستاذ السياسات العامة/ كلية العلوم السياسية/ جامعة النهرين
توطئة:
في البداية، تحدِّثنا مصادر الفلسفة السياسية والفكر السياسي القديم عن معرفة أهل العصور القديمة أنواعاً متقدمة من أساليب إدارة الحكم بالمشاركة وإنفاذ القانون، ففي الحضارة البابلية وثَّقت الدراسات إلى وجود المجالس التمثيلية التي كانت تدير الدولة بالتعاهد مع العاهل وهي مقسمة إلى مجالس للمحاربين ومجالس للشيوخ ولديها عديداً من الصلاحيات المهمة والقدرة على التشريع ومراقبة إنفاذ القانون، إلا أنَّ الأزمات التي مرَّت بها الحضارات والصراعات المتتابعة حالت دون استمرار المشاركة، وأسهمت في تخويل العاهل مزيداً من الصلاحيات بما حوله؛ ليكون صاحب السلطة العامة، والصلاحيات الواسعة.
كما تشير الدراسات الفرعونية إلى وجود نصوص توثِّق لصور الممارسات الديمقراطية آنذاك مثل ملحمة (إيزيس، وأوزيريس)، ووصايا الملك تحتمس الثالث لوزيره: بمراعاة الفقير، فضلاً عن بردية الفلاح الفصيح: التي سجلت كيف أنَّ فلاحاً يسيراً سُرِقَ حماره، فكتب إلى الحاكم شاكياً: (اختلَّ نظام العدالة).
على ضفة أخرى تُشير أساطير أتيكا عند الإغريق إلى أهمية حكم القانون والوقوف بحزم ضد ما يعاكسه من انحراف وفوضى حينما يأتي ذكر آلهة (التشريع، والقانون، والنظام الجيد، والازدهار الربيعي الأخضر) المعروفة باليونوميا (Eunomia)، وآلهة الفوضى المعروفة بالدسنوميا Dysnomia) ( الموصفة على نحو جلي في نصوص سولون (Solon) الأدبية التي حذَّر الناس فيها من عواقب الفوضى؛ ونصحهم وحثَّهم على العمل، عبر أدبياته التي تمثِّل أداة حنكته السياسية حين جسَّد الفضيلة اليونانية الأساسية للاعتدال، ووضع حدٍّ لأسوأ شرور الفقر في أتيكا، وزوَّد مواطنيه بدستور متوازن وقانون إنساني بات كمسلة للنزاهة تستنير بها الأجيال بعد أن علَّقها على الألواح الخشبية الدوارة لـ(100) عام؛ لتجنُّب الاضطرار إلى الدفاع عنها، وشرحها شرحاً كبيراً لكي يطوِّر الناس القانون بأيديهم.
وفي عالم اليوم وبعد الخراب الذي شهدته الدنيا وتصاعد وتيرة، وصور الفساد بأنماطه المختلفة، لا سيَّما في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، والتطبيق الفج للعولمة أضحت الحاجة ملحة إلى يونوميا جديدة (Eunomia) تجيد التعامل مع عالم الرقمنة الذي تصاعدت فيه وتيرة التدهور والفساد بذات القدر الذي يسر أمور الحياة.
في المصطلح وتطوره:
كما أسلفنا عرف مصطلح (Eunomia) لأول مرة في أدبيات الإغريق في القرن السابع قبل الميلاد على أنَّه الولاء للقانون الإلهي؛ ليصبح لاحقاً بمعنى الحق الإلهي لحكم الملوك في دولة المدينة الديموقراطية (مثل أثينا). ما حمل المشرع والشاعر ورجل الدولة (Solon) على توصيف تلك الإلهة بالنص الآتي:
« الدسنوميا Dysnomia) ( (الفوضى) تجلب الشرور التي لا تعد ولا تحصى للمدينة.
لكن يونوميا (Eunomia) تجلب النظام، وتجعل كل شيء مناسباً عن طريق تكبيل المنحرف بالقيود، وتجانس كل الأشياء الخشنة، ووقف الجشع، وتقويم الأحكام المعوجة، وتهدئة أعمال الغطرسة، وإيقاف غضب الفتنة القاسية … فتحت سيطرة يونوميا (Eunomia) كل الأشياء على ما يرام، والحصافة تسود الشؤون الإنسانية..»
ولذا، عدَّ سولون(Eunomia) قضية مدنية ترجمتها تشريعاته المعروفة (بدستور سولون) حين زواج بينها والقدرات الاقتصادية للبلاد، وكذلك النظام الضريبي الناجح لتمويل السياسات. يزاد على ذلك قيامه بمساواة الطبقات الدنيا للطبقات العليا في حق الاختيار لهيئة من خمسة آلاف مُحلف تتألف منهم أنواع المحاكم المصنفة للنظر في جميع القضايا ما عدا قضايا الخيانة والقتل. كما يحسب لسولون الإسهامات في تطوير القانون عن طريق عرض المنازعات على القضاة، وتركهم يجتهدون لتطوير نصوص بعض التشريعات التي أوردها وكان فيها شيئاً من الغموض. ويحسب إليه أيضاً (التزاماً بمبدأ المدنية) جرَّاء عدم الادعاء بأنَّ التشريعات قد أُنْزِلَت عليه من قبل الآلهة.