د. علي عبدالحسين الخطيب د. باسـم عـلي خريسـان
صدر عن مركز البيان للدراسات والتخطيط كتاب جديد تناول تأسيس مجلس الاتحاد المقر دستوريا. والدراسة تتناول سبل تشكيل المجلس المذكور وفقا للتجارب الدولية. وجاء في مقدمة الكتاب:
بالقدر الذي يأخذه الحديث عن النظام السياسي -بوصفه التجلي المادي للدولة- من أهمية، وما ينطوي عليه من تعقيد، تأخذ “صورة” النظام السياسي بدورها مناحٍ أكثر تعقيداً، والتباساً بين تجربة كل أمة في بلورة نظامها السياسي، وَفْقاً لفلسفتها في بناء الدولة، وتشكيل صورها، وما يترتب على وجودها من بنًى مادية ومعنوية.
وفي الوقت الذي حلت فيه الدولة إشكال “الأمن” سواءً أكان بمعناه التقليدي، أم بما توسَّع له معنى المصطلح في العصر الحديث، فإنَّها -أي: الدولة- قادت إلى إشكال آخر، هو صورة الحكم، وطبيعته، وطبيعة القوى القابضة على السلطة فيه، وكيفية إدارتها لواجبات النظام السياسي، ضمن الدولة، وفكرة الدولة في أيِّ مجتمع.
قادت المخاضات العديدة -التي خاضتها الأمم في غمراتها- إلى تطور صورة الحكم تقليدياً، من الملك القابض على كل شيء، مروراً بفكرة المستبد المستنير، وديمقراطية الصفوة… إلخ، وصولاً إلى الديمقراطية التمثيلية بصورها المختلفة، سواءً أكانت مباشرة، أم نيابية، أم رئاسية، أم ملكية دستورية بنظام نيابي.
ولكن، الجدل بشأن صورة النظام السياسي وطبيعة السلطات فيه لم تتوقف يوماً حتى في النماذج الديمقراطية الحديثة، واستمرَّ الحديث بشأن الصلاحيات، ومدى خضوعها لفكرة العرف السياسي، أو قوة النصوص الدستورية، ومدى رغبة القابض على السلطة باستخدام جميع صلاحياته، وإن قاد هذا إلى اضطرابٍ سياسي محتمل، ولعلَّ ولاية “دونالد ترامب” كانت مثالاً لهذا أي: للعرف السياسي الذي تعرَّض للاهتزاز، ولم تكن رغبة البقاء في السلطة بالأمر الجديد على الولايات المتحدة، إذ سبق لها أن جرَّبتها مع “فرانكلين روزفلت” من قبل، وليس هذا موضع نقاش للنظام السياسي الأمريكي قدر ما هي إشارة الى أنَّ صورة النظام السياسي الديمقراطي، ومهما بدا مستقراً، فإنَّه سيظلُّ عرضةً للجدل، وقابلاً للتطوير، والالتفاف عليه في الوقت نفسه.
على هذا، كانت فكرة تقسيم السلطة التشريعية على غرفتين من تجليات ذلك الجدل المستمر بشأن الديمقراطية، صورة نظامها السياسي وطبيعته، وتداخلت في اختيار هذا التقسيم عوامل متعدد، موضوعية ونظرية.
تختار الدول ذات الأنظمة الفيدرالية -تقليدياً- أن تقسِّم سلطتها التشريعية على غرفتين، تمثِّل إحداها شعوب الدول الداخلة في الاتحاد، وتمثُّل الأخرى حكومات الدول الداخلة في الاتحاد، ويكاد لا يشذ عن هذا التطور التاريخي لصورة الغرفتين إلا القليل، ولعلَّ المثال البريطاني مثَّل نموذجاً خاصاً لتقسيم السلطات التشريعية بين مجلس العموم ومجلس اللوردات، الذي كان صاحب اليد العليا، حتى فَقَدَ تدريجياً سلطاته، وصار مجلساً شرفياً مع تطوُّر النظام الديمقراطي البريطاني.
من جانب آخر، تأخذ فكرة “تهشيم السلطة” ومنع احتكار صلاحيات واسعة بيد مجلس واحد ركن مهم أيضاً في تقسيم السلطة التشريعية على مجلسين، لأنَّ خضوع السلطة التنفيذية المفترض للسلطة التشريعية، ومسؤوليتها التامة أمامها، يثير مخاوف متعددة، وتتعلَّق هذه المخاوف بمزاج الكتلة المهيمنة على السلطة التشريعية، وقدرتها على التصرف كـ”دكتاتور” نيابي، يعرقل عمل السلطة التنفيذية، حتى وإن كانت منبثقة منها، خصوصاً في الأنظمة ذات الديمقراطيات الهشَّة، أو في الأنظمة التي تتيح لقليلي الخبرة أن يخوضوا الانتخابات النيابية، بما يستلزم وجود غرفة تشريعية أخرى وازنة، تهشِّم أي محاولة لاستغلال الصلاحيات الواسعة للسلطة التشريعية من جهة، وبالوقت نفسه، تضمُّ معايير لانتخاب أعضاء الغرفة العليا في البرلمان، من ذوي الخبرة والتمرُّس في العمل النيابي والتشريعي، بما يزيد من جودة القوانين، ويرصِّن مخرجاتها.
ولم يكن النظام الديمقراطي الحديث في العراق، المتسم بهشاشة البدايات بمعزل عن هذا الجدل، وعن الالتباس بشأن السلطة التشريعية، وعن دورها أمام السلطة التنفيذية، وعن دور الأخيرة ومسؤوليتها أمام البرلمان، وقدرتها على تمرير سياساتها العامة برضاه، أو تجاهله وَفْق قوة رئيس مجلس الوزراء، واستناده على كتلة قوية في البرلمان.
وفي الحقيقة، يلاحظ أنَّ استثمار صلاحيات السلطة التشريعية، وقدرتها على عرقلة السياسات الحكومية كان متجلياً تجلِّياً واضحاً في عددٍ من مراحل الدورات التشريعية في العراق، وإن لم يعدِم البرلمان العراقي -من جانب آخر- وجود رئيس مجلس وزراء قوي قادر على تجاهل البرلمان، وتمرير سياساته من دون الخضوع لمزاج الكتل السياسية.
ومزاج الكتل السياسي هذا إنَّما يرتبط بعوامل معروفة في العراق، قائمة على التوازن الطائفي، الذي يبدو أنَّه يواجه مشكلة كبرى في الدورة التشريعية الحاضرة -دورة العام 2021- التي تبيِّن أيضاً أنَّ الارتباك بين الكتل، والصراع السياسي، وحداثة تجربة عدد كبير من النواب، قاد إلى التباسات قانونية، وجدل مستمر بشأن المناصب الكبرى، وتشكيل اللجان، وغيرها.
وإذا كان مجلس النواب تجلياً للانقسامات المجتمعية المدفوعة باتجاهات “ما قبل دولتيه” لأسباب تاريخية وموضوعية متعددة، فإنَّ وجود غرفة ثانية للتشريع وبمواصفات خاصة بإمكانها أن تسهمَ في خلق فضاء “وطني” عابر لتلك الاتجاهات، وداعم لعملية بناء الدولة والأمة بشروطها العصرية الحديثة.
من هنا، يبدو الحديث عن تشكيل مجلس الاتحاد -الجسم الدستوري- الذي نُسِيَ في غمرة الأحداث العراقية الجلل منذ التصويت على الدستور عام 2005 إلى اليوم، يبدو أمراً ضرورياً لا مندوحة عنه، ويكتنفه جدل كبير، بشأن صلاحياته، وما ينبغي أن يُناطَ به من واجبات، وإمكانية تنازل مجلس النواب عن بعض من أهم سلطاته الواسعة لغرفة تشريعية أخرى، بما يضعف هيمنته على الحكومة، على رأس السلطة التشريعية الذي يبدو أنَّ هناك توجُّه عام لأن يكون أكثر ضعفاً بعد كل دورة تشريعية، خصوصاً إذا لم يكن مستنداً على كتلة نيابية قوية تمرِّر قراراته، وتدافع عن سياسته.
إجمالاً، حاول الباحثان في هذا الكتاب تقديمَ لمحةٍ وافيةٍ عن فكرة مجلس الاتحاد، النماذج العالمية التي تطبِّقه، وصولاً إلى محاولة تحقيق وجوده في العراق، عبر الأطر القانونية السليمة، بطريقة تضمن أن يكون فاعلاً، وقادراً على موازنة السلطة التشريعية، ومساءلة السلطات الأخرى.