حيدر عبد المرشد- باحث
مدخل
لا يمكن الحديث عن الأمن الوطني بمعزل عن فكرة الدولة ونظامها السياسي وعملياته بالمجمل، فالأمن الوطني هو الصفة الجامعة لكل ما يتعلق بكيان الدولة، وهدفها الأساس الذي وجدت من أجله، سواءً بالفكرة الجنينية الأولى عن الأمن والدولة، وصولاً إلى تطوُّر مفهوم الأمن إلى الأمن الوطني الشامل بما يضمه من تعقيد وتركيب.
تركِّز هذه الورقة على مفردة مهمة تتعلَّق بإحدى عمليات النظام السياسي، التي تتدفق عبر سياسات عامة تتخذها الحكومة لتعزيز صورة الدولة وترسيخ مكانتها في الذاكرة الجمعية، مفترضة أنَّ تعزيز الرمزية الوطنياتية يقود إلى تدعيم أسس الدولة المعنوية في الشعور الجمعي، ممَّا يعزِّز بدوره قدرة النظام السياسي على استخدام الدعم المعنوي من المجتمع للنجاح بسياسته، وتدعيم قدرته على الوفاء بالتزاماته فيما يخص الأمن الوطني.
السياسات الرمزية والدولة
تعرف السياسات الرمزية بأنَّها (خلق واستخدام الرموز السياسية التي تدعم الشعور بالمواطنة المسؤولة وتغذي الإحساس بالولاء الوطني، وتدفع المواطنين إلى تقبُّل التضحيات والمصاعب وبذل كل ما هو نفيس في سبيل رفعة الوطن)(). يبيِّن هذا التعريف أنَّ هناك عملية صنع ذاكرة جمعية، وأنَّه يُعمد أحياناً في سبيل تعزيز سرديات الدولة إلى خلق رمز، وإن لم يكن موجوداً في تاريخ الدولة وتراث أمتها.
ومن نافلة القول إنَّ الدولة بوصفها مفهوماً قام لحفظ الأمن ترتكز على عقد اجتماعي مؤسس، وهذا العقد الاجتماعي، وبقدر ما يركز على موضوعة أساسية تتعلق بخلق الدولة لأجل تحقيق الأمن، فإنَّ هذا العقد بالنهاية يرتكز على منظومة القيم التي يشترك فيها المتعاقدون، وتذكر الدراسات الدستورية أنَّ الدستور بوصفه القانون الأساس الذي يعرف الدولة وينظم شأنها، يستند على ما يسمَّى (السنة الأساسية) وهي ما توافق عليه المجتمع وتعاقدوا على احترامه.
تضمُّ هذه السنة الأساسية مجموعة واسعة من العناصر، المادية والمعنوية، والقيم، والعقائد، والتقاليد والعادات، والتراث بالمجمل، سواءً كان الشفاهي أم المادي أم المكتوب، وتضمُّ هذه العناصر رموزاً، ومحطات تاريخية، وأشخاصاً يتصفون بالبطولة، يكون دورهم شد عنفوان الأمة وترسيخ احترامها لنفسها، وتربطها بدولتها ونظامها السياسي.
وبقدر ما ترتبط الأمة برموزها، وبقدرة الدولة ونظامها السياسي على استدامة حضور ذلك الرمز المؤسس بطريقة لا تعرقل التقدم نحو المستقبل مع الحفاظ على الهوية والذات المستقلة للأمة، بقدر ما يتحقق هذا الهدف، فإنَّ نجاح السياسات الحكومية -التي تشكِّل بالمجمل رافداً للأمن الوطني للدولة- يكون أكثر إمكانية للتحقق الرضا العام ونيله، ما دامت السياسة العامة ترتبط بالدرجة الأولى بتحقيق الرضا العام.
تتخذ السياسات الرمزية طرائق متعددة تظهر عبرها نصب فنية، ونمط العمارة، وأسلوب اللبس، والأسماء، والفنون، والموسيقى، والشعر، والاستعراضات العسكرية، ومظاهر قوة الدولة وهيبتها، وأمور أخرى متعددة.
تمثِّل هذه السياسات رابطاً معنوياً غير منظور، يشد الفرد إلى دولته، ويعزِّز مواطنته، وهي لا تتفعَّل بسهولة وبطريقة تلقائية، بل تستند إلى عوامل عديدة متشابكة ومعقَّدة، تبدأ من أول لحظة قيام الدولة، والاتفاق عليها، وقبول النظام السياسي المنبثق عنها، وتشييد البنية القانونية التي يعتمدها النظام لإدارة الشأن العام، بطريقة تجعل الفرد يجد أنَّ قبولها شرط مواطنته، وأنَّ مواطنته ثمينة وتستحق التضحية.
ثم تترسَّخ عبر آليات وقنوات التنشئة، بفرض أنَّ التنشئة تمثِّل العملية التي بمقتضاها تُنْقَل القيم عبر الأجيال، وَفْق قنوات معينة تتمثَّل بالأسرة وجماعات الأقران والمدرسة ووسائل التواصل والإعلام وكل ما تتضمنه التكنولوجيا ضمن هذا النطاق.
فلو تحدثنا مثلاً عن النصب التاريخية، فإنَّ عملية التفاعل معها تتطلَّب معرفة تاريخية، وتنشئة يتلقاها الطالب في المدرسة، تبيِّن له تاريخ بلده بطريقة ناصعة، تمجِّد إنجازات الماضين، وتعزِّز مشاعر الفخر الوطني، وترسِّخ تلك المحطات التاريخية ضمن عملية تلقين متواصل عبر قنوات متعددة، مثل نُصب الأبطال الوطنيين، والشعراء، والفنانين، والعلماء، والمبدعين، والنُصُب التي تتحدث عن ثورات البلد، ومسيرته في البناء، ويلاحظ مثلاً في هذا السياق أنَّ الدول الراسخة، وبقدر ما تعتمد مناهجاً تاريخية في مدارسها، فإنَّها تعزِّز تلك المناهج بزيارات ميدانية إلى المتاحف، والنصب التذكارية.
ومن البديهي أنَّ مسألة التنشئة الوطنية تَصُبُّ بالدرجة الأولى على النشء الجديد، وقد لا تكون فاعلة مع الذين تقدَّمت بهم أعمارهم في ظل أزمات متعددة شهدها بلد مثل العراق، ممَّا يعني ضرورة الالتفات إلى موضوع السياسات الرمزية ضمن العملية التربوية في المدارس العراقية، بطريقة تعزِّز تكوينهم السياسي في طريق تعزيز المواطنة الفاعلة والحس الوطني.