من المعروف عن الحدود العراقية الإيرانية المشتركة بأنَّها واسعة ومليئة بالمخاطر، فيما طوت حقبات تاريخية مختلفة مليئة بالنزاعات والتشنجات، ولكن اليوم آن الأوان لتصفير النقط الخلافية، وتضييق دائرة التوتُّر، وتشخيص كلِّ ما من شأنه أن يعكِّرَ صفو الأجواء بين البلدين؛ لبناء علاقات رصينة، فبعض العوامل المنتجة للتوتُّر هي عوامل جيوسياسية وتاريخية، وبعضها الآخر ذات علاقة بالأزمات الحديثة، أو المستحدثة، إذ يجب تشخيص وحلحلة كلِّ منها تباعاً وَفْق أهميته ونسبة خطورته، ومن النقط القابلة للاهتمام هي: دخول العنصر الشعبي في التأثير على بوصلة العلاقات الثنائية، فنظراً للحكم الديكتاتوري للنظام العراقي سابقاً، لم يكن العامل الشعبي لاعباً أساسياً بنوع العلاقة بين البلدين، أي: كان عاجزاً عن أيسر مقومات التأثير، إلا أنَّه تحوَّل اليوم إلى أحد العوامل التي يُعتدُّ بها، وأخذها بعين الاعتبار بصورة واضحة.
النقطة الأولى من الخلافات بين البلدين: هي الاختلافات الجيوسياسية، وهي عميقة بحيث لا تتغيَّر بتغير الحكومات والأنظمة، لذا هي -دائماً- بحاجة إلى حلول ناجعة، ومن جملتها ملف الحدود البحرية المشتركة، وملف الحصص المائية المشتركة بينهما.
النقطة الثانية: وهي من المشاكل التي من شأنها أن تسهم في التأثير على استقرار أنظمة كلا الحكومتين سلباً وإيجاباً، فعلى سبيل المثال دعم العرب في إيران، وفي المقابل التدخل الإيراني في شؤون شيعة العراق، وهناك نقط خلافية أخرى مرتبطة بثقافة الشعبين، إذ باستطاعة الحكومات تخفيفها أو تعميقها، ولكنَّها -أساساً- مرتبطة ذاتياً بالأعراف والتقاليد والتاريخ لكلا الشعبين، ومن جملتها التصرفات السائدة لسيَّاح كلا البلدين، وهناك أمور أخرى قد تحصل تخص كلا البلدين شعباً وحكومة، وذلك في الوقت الذي يمر به الجانبان بمرحلة علاقات إيجابية مستقرة، في الوقت الذي ينظر فيه أحد الشعبين إلى حكومة الشعب الآخر نظرة سالبة كما حصل مثلاً في تظاهرات تشرين.
في هذا البحث تُدْرس وتُبحث بعض الأزمات الرئيسة بين البلدين بالنظر لنوع الخطر ونسبة خطورته وَفْق التسلسل المذكور أعلاه.
شرح الموضوع:
أزمة المياه
وتُعدُّ هذه الأزمة الجيوسياسية أزلية، أي: إنَّها لا تنتهي بتعاقب الحكومات والأنظمة؛ لأنَّها متجذرة، ومرتبطة بذات العلاقة بين البلدين، وتدخل أزمة المياه أولاً في كيفية الاستفادة من المياه المجاورة، وثانياً ترسيم الحدود المائية، فالأول مرتبط بالظرف الحالي المعاصر، والثاني مرتبط بتاريخ قديم وأزلي، وفيما يتعلق بترسيم الحدود المائية، إذ يجب الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ أهمية شط العرب إلى جانب (خور عبدالله) حياتية للعراق، وهو المتنفس الوحيد الذي يطلُّ عليه نحو المياه الحرة، والتجارة العالمية، فقضية شط العرب قضية معقدة لكلا الطرفين، إذ تسبَّبت بخلافات وخسائر كبيرة على مر الأنظمة، فضلاً عن أنَّ الأنهار الموسمية وشحة المياه مؤخراً، وتحكُّم إيران بمجاريها لصالح أراضيها، جعلت من العراق عاجزاً عن استخدام الكميات المائية الكافية، والجدير بالذكر أنَّ مسألة المشاكل البيئية تربط البلدين ببعضهما كسلسلة مترابطة؛ لأنَّ شحة المياه في العراق، وتضييق الخناق المائي عليه من شأنه أن يفاقم أزمة الغبار والتلوث البيئي الذي ينعكس سلباً على إيران، وخصوصاً في مناطق حدوده الغربية والجنوبية، وهذه المصالح المشتركة تنطبق نفسها على موضوع حدود شط العرب، فكما يعدُّ العراق نفسه مخوَّلاً باستخدام مياه شط العرب من أجل زيادة مستوى التجارة، ترى إيران لنفسها الأحقية بالحفاظ على وحدة أرضها وسلامتها، وقد تركزت جهود البلدينِ في العقود الأخيرة على مقدار المالكية لهذا الممر المائي، في حين يجهل الطرفان الغرض من مالكية القناة المائية، وكيفية تقسيم مياهها، والاستفادة منها بعيداً عن حدوث أي نزاع حدودي، فقد كان الهدف الرئيس لحلِّ النزاع هو السيطرة على الممر المائي (شط العرب) فحسب، ولم يلتفت إلى إمكانية إيجاد طريق آخر لتأمين مصالح كلا الجانبين بعيداً عن المواقف المتشنجة، إذ يجب على الطرفين القبول بأعلى درجات الالتزام القانوني، بما يجنب البلدين صفو الأجواء، وتحقيق المصالح المشتركة.