شهدتِ العلاقات الإيرانية السعودية عديداً من التقلُّبات منذ انتصار الثورة عام 1979، وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن ثَمَّ يمكن تقسيمها على ثلاث فتراتٍ من التعاون والتنافس والصراع وَفْقاً للأحداث الداخلية والإقليمية والدولیة التي تحدِّد نوع العلاقة بين هاتينِ الدولتينِ. اتسمتِ العلاقات السعودية الإيرانية بالاحتقان الشديد؛ بسبب الخلافات السياسية والمذهبية على مرِّ التاريخ، ووصلت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدينِ في عديدٍ من المناسبات. وقد تُعدُّ العلاقات بين هاتينِ القوتينِ الإقليميتينِ المهمتينِ علاقات متوترة، حتى أنَّه في العقود الثلاثة الماضية قُطِعت مرَّتين. فقد قُطِعَتِ العلاقات الدبلوماسية للمرة الأولى عام 1987 بعد حادثة مكة المكرمة، ومقتل الحجَّاج الإيرانيين، والمرة الثانية عام 2016 بعد مهاجمة الأماكن الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد؛ إثر إعدام رجل الدين السعودي الشيعي البارز نمر النمر. في الحالة الأولى، اسْتُؤْنفتِ العلاقات بين طهران والرياض بعد أربع سنوات، لكن في الحالة الثانية، بعد ستِّ سنواتٍ ما زالت العلاقات الدبلوماسية بين البلدينِ مقطوعة.
وقد سعت -في السنوات الأخيرة- عديد من الدول الإقليمية والدولية للتوسُّط، وتخفيف التوترات بين طهران والرياض. تقدَّمت بعض الدول الإقليمية والدولية مثل: (قطر، والکویت، وروسیا) -في بداية عام 2021، وخصوصاً بعد انتهاء مدَّة رئاسة (دونالد ترامب)، والمصالحة الخليجية- للوساطة بین الرياض وطهران. فبعد أن نجحت محاولات الکویت للوساطة بین قطر والدول الخلیجیة التي قاطعت قطر، والتي تکلَّلت باتفاق العُلا، عرضت هذه الدولة قضیة الوساطة بین إیران والسعودیة. ودولیاً، أعلن وزیر الخارجیة الروسي (سیرغي لافروف) في كانون الثاني/ ینایر 2021 أنَّ الحکومة الروسیة مستعدة للوساطة بین إیران والدول العربیة، وحلحلة الصراع بین الطرفین.
إذن، بعد مُضي خمسة أعوام علی انقطاع العلاقات السیاسیة والاقتصادية بین طهران والریاض ومساعي بعض الدول المنطقة کباکستان، وعمان، نجحت دولة مصطفی الکاظمي للوساطة بین البلدين، وبدأت الجولة الأولی من المحادثات بین البلدین في عام 2021. اتخذ العراق في الآونة الأخیرة سیاسیة الحیاد الإیجابي بین طرفي الصراع، ووقف علی مسافة واحدة بین البلدین. ولکي یثبت العراق ذلك، کان رؤساء الوزراء یقومون بزیارات کثیرة بین البلدین. لکن من بین الوزراء السابقین الذين تولوا مقالید الحکم في العراق کان مصطفى الکاظمي الوحید الذي نجح في کسب ثقة البلدین. فقد قام -منذ تولیه الحکم- بزیارات إلی طهران والرياض، وناقش مع مسؤولي هاتین الدولتین قضیة الوساطة وحل النزاع. استفاد رئیس الوزراء العراقی مصطفی الکاظمي من علاقاته مع ولي العهد السعودي محمَّد بن سلمان والقادة الإیرانیین؛ لرأب الصدع بین البلدین؛ إذ اجتمع القادة العسکریون ورجال الاستخبارات السعودیین والإیرانیین مرات عديدة في العاصمة العراقية بغداد في العام الماضي.
عموماً، استضافت بغداد -في المدَّة من نيسان/ أبريل 2021 إلی نيسان/ أبريل 2022- خمس جولات من المحادثات بين مسؤولي طهران والرياض. وقد أثارت الجولة الخامسة من المحادثات بين السعودية وإيران في بغداد شعوراً جديداً بالتفاؤل، إذ وصف وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، الجولة الخامسة بأنَّها كانت إيجابية، مشيراً إلى احتضان بغداد جولة جديدة. وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده: إنَّه يرى تقدُّماً في الجولة الأخيرة من المحادثات التي وصفها بـ»الإيجابية والجادة”.
لذا، تسعی هذه الورقة التحليلية للإجابة على سؤالين رئيسين: الأول: ما الأسباب التي دفعت طهران والرياض ومدى استعدادهما للتفاوض بعد ست سنواتٍ من قطع العلاقات الدبلوماسية؟والثاني: ما دوافع العراق للوساطة بين إيران والسعودية وتداعياتها علی بغداد؟ للإجابة على هذين السؤالين، قُسِّم هيكل البحث على أربعة أقسام. فبعد تحليل جذور الخلاف بين إیران والسعودية وأسبابه التاريخية والمستجدة، ستُذْكَر أسباب انعقاد المحادثات الإيرانية السعودیة ودوافعها، وفي النهایة سيُدْرَس دور بغداد في المحادثات الإيرانية السعودية، وعواقبها على العراق.