د. عمار حميد ياسين/ أستاذ العلاقات الدولية المساعد في كلية العلوم والسياسية جامعة بغداد
مدخل:
لا تتحدَّد انعكاسات الحرب الروسية-الأوكرانية في مجال الدولتين الجيوسياسي؛ ليؤثِّر على دول عديدة في المجالين المركزي والهامشي من بنية النظام العالمي في ظل تزايد معادلة التصعيد سواءً عبر تعزيز الزخم العسكري الروسي في الداخل الأوكراني؛ أم إمداد الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الناتو لأوكرانيا بالأسلحة والآليات العسكرية، وتتابع التهديدات بالرد القاسي بالعقوبات الاقتصادية من جهة الدول الأوربية، لذا تعرض هذه التطورات بعض الأسئلة حول مدى علاقتها بالتحولات في صياغة أنماط علاقات القوة الجيوسياسية على مستوى النظام الدولي، وعوامل تصاعد الأزمة، ومواقف القوى الفاعلة فيها. نقلت روسيا مسار الصراع -في ظل هذه التطورات- حول أوكرانيا، وهو الصراع الذي قد يعيد رسم خارطة القارة الأوربية مرة أخرى، ويقلِّب جهود الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتحقيق الاستقرار في علاقتها بروسيا، نظراً لتزايد ثقة موسكو سياسياً واقتصادياً من أجل استعادة دورها الريادي.
خريطة الصراع:
تُظهر خريطة الصراع ما بين الناتو وروسيا أنَّ الساحة الأوكرانية سوف تصبح مجالاً للصِّدَام المباشر بينهما لا سيَّما في ظل وجود رغبة روسية؛ لوضع كوابح ضد توسُّع الناتو باتجاه المجالات الجيوبوليتكية الحيوية الروسية، والذي طال معظم دول أوروبا الشرقية، لا سيَّما بعد العام 1997، هذا من جانب، ومن جانب آخر، تدرك أوروبا أهمية التشابك الاقتصادي مع روسيا، لا سيَّما في مجال إمدادات الطاقة، إذ تستورد أوروبا قرابة (40%) من احتياجاتها من الغاز من روسيا، لذا تلقي سياسات الطاقة الروسية بظلالها على الداخل الأوربي الذي يحاول المواءَمة بين احتياجاته وحاجة أوكرانيا الاقتصادية؛ لأنَّها لم تعد ممر العبور الوحيد لأنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا في ظل وجود نورد ستريم (1-2) عبر بحر البلطيق مباشرة إلى ألمانيا.
ومع التهديدات الأمريكية لروسيا؛ إلا أنَّ عديداً من المراقبين رأوا أنَّ الموقف الأمريكي الحقيقي من الصراع ليس منع الغزو الروسي لأوكرانيا؛ لأسباب تتعلَّق برغبة الإدارة الأمريكية في تأزيم روسيا، واستنزافها مالياً، ومفاقمة مشكلاتها الاقتصادية، وتعطيل دخول خط (نورد ستريم 2) لنقل الغاز إلى ألمانيا؛ لأنَّه سيمنح روسيا نفوذاً أكبر في القارة الأوربية، وربَّما تحقِّق الهدف الأمريكي بإعلان ألمانيا إيقاف إجراءات ترخيص خط الغاز الروسي (نورد ستريم 2)، وفرض عديد من العواصم الغربية عقوباتٍ ضد موسكو، لا سيَّما بريطانيا، وأستراليا، وكندا، وغيرها.
يظهر الصراع الدولي على أوكرانيا حِدَّة الصراع بين القوى المهيمنة التي ترغب في إنهاء الهيمنة الأحادية الأمريكية، والتحوُّل نحو نظام اللاقطبية، لذا يرى بعضهم أنَّ هذه الأزمة تشكِّل مفترقاً في توازن القوى الدولي القائم، فضلاً عن أنَّ اندلاع صراع مفتوح قد يكون بمنزلة حرب عالمية ثالثة تضع العالم أمام تحديات كارثية؛ لا سيَّما في ظل معادلة الحشد العسكري، والذي يُعيد إلى الذاكرة أجواء الحرب الباردة. إذ يتضح من طبيعة هذه المواقف أنَّ الحرب الأوكرانية والتصعيد الروسي ضد أوكرانيا يرتبط بصراع جيوسياسي واسع على مناطق القوة والنفوذ والمجالات الحيوية، وتنافس تجاري دولي محتدم على النفط، والغاز، ومسارات التجارة الدولية وخطوطها بين أقطاب إستراتيجية دولية تتجاوز أوكرانيا، إذ يأتي الصراع ضمن إطار التحولات الدولية الراهنة والصراعات على مناطق القوة والنفوذ المكانة الدولية بين القوى الدولية المؤثرة في القضايا والشؤون الدولية، ويبقى بِلا شك أنَّ الصراع بين القوى الدولية هو أحد الركائز الممكنة لتفسير الأزمة الأوكرانية، وإن كانت الشرارات تمسُّ الإشكاليات الإقليمية والجيوسياسية؛ إلا أنَّ ميزان القوى الدولي، وتحولات النظام العالمي في الوقت الراهن هي دوافع ما يحاك خلف الستار من خطط إستراتيجية، سواءً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل احتواء روسيا الاتحادية أو من قبل روسيا من جهة رغبتها في إعادة تشكيل النظام الدولي؛ بهدف فرض هيمنتها على فضائها الحيوي.