المقدمة
يمتدُّ تاريخ العلاقات الثنائية بين تركيا والمملكة العربية السعودية إلى ما يقارب (100) عام، إذ كانت أول علاقة رسمية ما بين الدولتين قد نشأت في عام 1929، حينما اعترفت حكومة تركيا الأتاتوركية بدولة الحجاز الناشئة، وقد تعرض مسار العلاقات ما بين الدولتين لكثيرٍ من العراقيل والمشكلات في العقود الماضية؛ لأسباب عديدة، منها: الاختلاف في صورة النظام السياسي وتركيبته وأسسه وخياراته المختلفة ما بين البلدين. كما كانت مشكلة الاعتراف التركي بدولة إسرائيل، هي أحد أهم الحواجز التي تمنع من تحسين العلاقات ما بين السعودية وتركيا. وقد تدهورت العلاقات بين البلدين في التسعينيات حينما انحازت الرياض إلى جانب سوريا في عديدٍ من النزاعات مع أنقرة المجاورة. ولكن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا في عام 2002، شهدت العلاقات ما بين القوتين الإقليميتين تطوراً ملحوظاً، واتفاقاً في عديدٍ من وجهات النظر فيما يخص الأوضاع الإقليمية والعالمية. وكانت أفضل أحوال تلك العلاقات حين زار العاهل السعودي الراحل، الملك عبدالله بن عبدالعزيز تركيا في آب/أغسطس 2006، وهو ما شكَّل نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ العلاقات، إذ شهدت توقيع (6) اتفاقات بين أنقرة والرياض. زار الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان الرياضَ في عام 2015، ووقَّع البلدانِ اتفاقية التعاون الإستراتيجي، وبعدها في نيسان/أبريل 2016 زار الملك سلمان بن عبدالعزيز تركيا، ووقَّع البلدانِ معاهدةً لتأسيس مجلس التنسيق التركي السعودي، وعقد المجلس اجتماعه الأول في أنقرة برئاسة وزيري خارجية البلدين.
لكن نشأتِ الصراعات والتوترات في العلاقات الثنائية بين تركيا والمملكة العربية السعودية مع بداية الثورات العربية في الشرق الأوسط أواخر عام 2010. كانت تركيا والسعودية على خلاف منذ 2013؛ بسبب تضارب الآراء والمصالح في أزمات إقليمية کمصر وسوريا وقطر وليبيا. حتى يوم 2 تشرین الأول/ أکتوبر 2018، كانت العلاقات بين السعودية وتركيا قائمة، وتتواصل النشاطات المختلفة بين البلدين لا سيَّما الاقتصادية والسياحية. لكن في اليوم الذي شهد جريمة اغتيال الصحفي السعودي «جمال خاشقجي» بقنصلية بلاده في مدينة إسطنبول فتح الباب أمام خلاف سياسي، وقطع للعلاقات بين البلدين.
ظهرت بوادر تحسُّن العلاقات بعد أربع سنوات من التوترات؛ عن طريق لقاءات وتصريحات لمسؤولين من البلدين في الربع الأخير من عام 2021. إذ أعلن الرئيس التركي في نيسان/أبريل 2021 فتحَ صفحة جديدة مع جميع دول الخليج. وتحدَّث أردوغان هاتفياً في أيار/مايو الماضي مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، لبحث العلاقات الثنائية، وعقب المكالمة زار وزير الخارجية التركي «مولود تشاووش أوغلو» الرياض. فيما كان المؤشر الأقوى هو إعلان الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان، في 3 كانون الثاني/يناير 2022 عزمه زيارة السعودية في شباط/ فبراير الماضي، وذلك تزامناً مع زيارته للإمارات، لكن الزيارة لم تتم. کما زار وزير الخارجية التركي السعودية في أيار/مايو الماضي، وأجرى محادثات رسمية مع المسؤولين السعوديين، في أول زيارة لمسؤول تركي رفيع المستوى بعد القطيعة التي وقعت بين البلدين في أعقاب اغتيال «جمال خاشقجي» عام 2018، في قنصلية بلاده بإسطنبول. وتُعدُّ زيارة رجب طيب أردوغان للسعودية بعد خمس سنوات ولقائه بالملك سلمان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان نقطةَ تحوُّل في العلاقات بين البلدين؛ لأنَّ هذه هي أول زيارة يجريها أردوغان للمملكة منذ عام 2017، وتأتي في سياق محاولات تفكيك الخلافات التي طفت على العلاقات في السنوات الخمس الماضية.
تسلِّط هذه الورقة التحليلية الضوءَ على مستقبل العلاقات التركية السعودية، وهو ما فرض سؤالين مهمين وأساسيين تسعى إلى الإجابة عنهما: أولاً: ما أسباب التوتر والانفراج في العلاقات بين أنقرة والرياض؟ وثانياً: ما الآفاق المستقبلية للعلاقات التركية السعودية؟ وللإجابة عن هذين السؤالين، قُسِّمَ هيكل البحث على ثلاثة أقسام. فبعد تحليل أسباب توتر العلاقات التركية السعودية في العقد الماضي وسياقاته، سيُذكر أسباب خفض تصعيد التوترات وتخفيفها، وفي النهاية سيُدرس مستقبل العلاقات بين البلدين.
أسباب التوتر في العلاقات التركية–السعودية وسياقاتها
شهدت العلاقات السعودية التركية عديداً من التحديات والتقلبات على مدى العقد الماضي؛ بسبب التنافسات الجيوسياسية والصراعات الأيديولوجية. وقد كانت المواقف المتباينة من الانقلاب في مصر عام 2013 السبب الرئيس للتوتر في العلاقات بين البلدين. إذ دعمت تركيا حكومة الإخوان المسلمين بقيادة «محمد مرسي»، ودعمت السعودية «عبدالفتاح السيسي». ويرجع ذلك إلى الاختلافات الأيديولوجية والخطابية بين الفاعلين. في حين أنَّ تركيا من أشد المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، فقد صنَّفت المملكة العربية السعودية جماعة الإخوان المسلمين على أنَّها جماعة إرهابية().
أدَّى دعم الرياض للانقلاب في القاهرة إلى تصعيد الصراع التركي السعودي في سوريا. لقد كانت الأزمة السورية منذ البداية دافعاً قوياً للتقارب التركي السعودي من أجل إسقاط نظام بشار الأسد، سواءً على مستوى التنسيق السياسي، أم العسكري، أم اللوجستي، أم تدريب جماعات المعارضة المسلحة. لكن مع تأزُّم الحرب السورية، وتحوُّلها لصراع إقليمي ثم صراع دولي، لم يعد جامعاً لجهود البلدين ودافعاً للتقارب بينهما، فمن ناحية أصبحت موازين القوى العسكرية على الأرض تصبُّ في صالح نظام بشار الأسد، وأصبحت المواقف الدولية والإقليمية الفاعلة تتراجع عن فكرة ضرورة رحيل بشار، وإمكانية إدماجه في مرحلة انتقالية، بل وما بعدها أيضاً، -من ناحية أخرى- تراجعت تركيا واقعياً عن فكرة دعم المعارضة من أجل إسقاط النظام، ليس فقط لعدم واقعية هذا المطلب، بل من أجل التركيز على الخطر الأكبر الذي يهدِّد الأمن القومي التركي، وهو الخطر الكردي، ويمكن النظر لعملية (درع الفرات) التي أطلقتها تركيا في 24 آب/أغسطس 2016، بوصفها المحطة الأبرز لهذا التطور. إذ تخلَّت فيها تركيا عن إسقاط بشار الأسد، وأعلنت أنَّ تدخلها العسكري في شمال سوريا لمواجهة الخطر «الداعشي» والكردي فقط، بتوافق وموافقة روسية.
لقد ذهب التوافق التركي الروسي لاتفاقات متعددة، بدأ بالتوافق حول إخراج المعارضة من حلب بعد هزيمتها فيها عسكرياً، ثم تلتها اتفاقات حول مناطق خفض التصعيد في «أستانا» بمشاركة إيرانية وغياب سعودي، ثم التوافق حول دخول فصائل من «الجيش الحر» مدعوم برياً من تركيا وجوياً من روسيا لمحافظة «إدلب»؛ من أجل إخراج «هيئة تحرير الشام» من المحافظة، وإدراجها ضمن المناطق منخفضة التصعيد.
مع أنَّه لم يظهر تصريح رسمي علني عن السعودية يعبِّر عن تخليها عن دعم المعارضة، وعن مطلب رحيل بشار الأسد إلَّا أنَّ المؤشرات الأولية تشير إلى أنَّ هناك ثمة تراجعاً نسبياً في الموقف السعودي بهذا الخصوص، وإن لم يكن بدرجة التراجع التركي نفسها.