د. مهند حميد مهيدي/ تدريسي في جامعة الأنبار
الملخص التنفيذي:
هناك قصر نظر في الدولة العراقية، إذ ازداد تدخلها في الحياة الاقتصادية عن طريق السياسة المالية التوسعية بصورة كبيرة منذ التغيير في 2003، وبذلك ابتعدت الدولة عن الدور التصحيحي المفترض القيام به.
أدَّى الدور الجديد للمؤسسات المالية الدولية في افتراض جملة من الاشتراطات مقابل منح القروض إلى خلق طبقات وشرائح طفيلية غير منتجة تعمل على امتصاص القدرات المالية للدولة والمجتمع وتسعى جاهدة على دمج الاقتصاد العراقي بالرأسمالية العالمية على وَفْقِ منظور السوق المفتوح عن طريق إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص بإدارة الملف الاقتصادي.
لا تتلاءَم الإصلاحات التي يفرضها صندوق النقد الدولي على البلدان النامية مع بيئتها الاقتصادية وهي في الغالب غير قابلة للتطبيق.
يستلزم الإصلاح الجذري إدارةً اقتصاديةً وطنيةً متمكنةً من ناحية، فضلاً عن جهاز إداري في الوزارات يتسم بالطابع الوطني بعيد عن شبهات الفساد والمحاصصة من ناحية ثانية، وكذا يستند العقد الاجتماعي إلى دستور معدَّلٍ أو جديد من ناحية ثالثة.
تستلزم الأزمة الاقتصادية الراهنة الشروع بإصلاحات اقتصادية الهدف منها توسيع القاعدة الإنتاجية، وتأمين توزيع أكثر عدالة للدخل، والثروة، وتنمية الموارد البشرية، والعناية بالفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً.
ما زال تحكُّم الأجندات الحزبية بالواقع الاقتصادي، وومحاولات تطويعه لخدمة المصالح الفئوية على حساب المصلحة العامة يُشكِّل عقبة في مسيرة الإصلاح الاقتصادي المنشود في العراق.
المقدمة:
أنتج التغيير السياسي في العراق في عام 2003 واقعاً جديداً على الاقتصاد العراقي بالاتجاه نحو اقتصاد السوق، عقب حقبة من الزمن امتدت لأكثر من أربعين عاماً، تأرجحَ فيها النمط الاقتصادي للدولة ما بين نظام التخطيط المركزي ورأسمالية الدولة في مرحلة معينة، وما بين انسحاب الدولة من بعض الأنشطة الاقتصادية في مراحل أخرى، كما كانت عقود الحرب، والعقوبات الاقتصادية الدولية، والعزلة عن التطورات الاقتصادية في العالم في كثير من الأحيان سبباً في تبنِّي الأنماط الاقتصادية الرثَّة والهجينة والتي خلقت واقعاً اقتصادياً قائماً على العزلة والتراجع مع تبنِّي ممارسات الأعمال البدائية. وفي ضوء تلك الظروف الاقتصادية والأوضاع السياسية والاجتماعية فقد كان لحالة التحوُّل السياسي أن تفضي إلى تغيير في النظام الاقتصادي بالاتجاه نحو اقتصاد السوق يكون أقدر على امتصاص وعبور تلك العقود من التراجع الاقتصادية وَفْق سيادة أنماط اقتصادية، وسلوكيات مجتمعية، تحجِّم من القدرة على إدارة التحوُّل بصورة سلسلة.
المحور الأول: مضامين الإصلاح الاقتصادي في العراق بعد عام 2003.
فرضت سلطة الائتلاف سياسة اقتصادية جديدة عقب أحداث التاسع من نيسان 2003م، تمثَّلت بمنهج التحوُّل نحو اقتصاد السوق، وبناء نظام اقتصادي ليبرالي بعد مرحلة من الزمن طغت فيها توجيهات الإدارة المركزية على الجانب الاقتصادي بوضع القوانين والتشريعات التي تضمنت حرية النشاط الاقتصادي واتخذت تدابير وإجراءات طالت عديداً من المجالات؛ لتفعيل آليات السوق وأدواتها.
ممَّا حدا بالحكومة العراقية إلى عقد اتفاقيات عديدة مع صندوق النقد والبنك الدوليين في عام 2004م لمحاولة إيجاد حلٍّ للمشاكل التي تمثَّلت بانخفاض إنتاج القطاعات الزراعية والصناعية الرئيسة، وتدهور الخدمات العامة كالماء الكهرباء، وانخفاض الاستثمار الخاص والعام، فضلاً عن ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة جداً وغيرها، عن طريق تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي في العراق في ظل الأزمة الهيكلية التي تصيب الاقتصاد العراقي، وبعد حصول العراق على موافقة لبرنامج المساعدات الطارئة لمرحلة ما بعد النزاع التابع لصندوق النقد الدولي وافقت (18) دولة من أعضاء (نادي باريس) في 2004م إلغاء (80%) من الديون المستحقة لها لدى العراق والبالغة (130) مليار دولار.
لذا سعى العراق إلى تبنِّي مواصفات المؤسسات المالية الدولية؛ بهدف الخروج من الأزمة التي اجتاحت اقتصاده، مثل: أزمة الديون الخارجية، وترهُّل القطاع الحكومي بالبطالة المقنَّعة، ممَّا أجبر النخب السياسية والاقتصادية على قبول برنامج الإصلاح الاقتصادي.