مريم خالقي نجاد، باحثة في العلاقات الدولية.
لقد شهدت الدول الأوروبية خلال العقود الماضية بسبب المواقع الوظيفية والدراسية أو أمثالها تصاعداً في عدد الأقليات ولاسيما الأقليات المهاجرة في القارة الأوربية. وضاعفت مسألة وجود أقليات محلية في بعض الدول من رغبة الأقليات العرقية واللغوية والدينية المختلفة للهجرة إلى تلك الدولة (ألمانيا) أكثر من سائر الدول الأخرى. لكن في المقابل ترافق دخول الأقليات إلى معظم الدول أو تواجدها في معظم القارات مع موجة من ردود الفعل واتخاذ سياسات وأثار ذلك أزمات أيضاً، وفي نهاية المطاف سيفضي هذا الأمر إلى تبلور إمكانيات وظهور مقدرات عديدة ولاسيما وسط شريحة عمال الصناعة والاقتصاد في تلك الدول.
خلال عقد التسعينيات وفي أعقاب اندلاع بعض الأزمات الداخلية الشديدة والعميقة في دول منطقة البلقان ومنها انتشار المضايقات وإلحاق الأذى وانعدام حقوق الأقليات، أنشئت هذه الدول منظمة التعاون والأمن في أوروبا والمفوضية السامية لحماية الأقليات الوطنية. وانعقد مؤتمر هلسنكي وتشكل ميثاق كوبنهاغن والمجلس الأوروبي وأبرمت اتفاقيات مختلفة في أوروبا تبنت جميعها الدفاع عن حقوق الأقليات.
واعتمدت أوروبا خلال السنوات الماضية آليات، واتبعت مسلكيات قانونية أفضل لجهة التعامل مع قضية الأقليات وفسح المجال لهم قياساً ببقية دول العالم الأخرى، لكن لم يفض هذا الأمر إلى حصول الأقليات على حقوقها كاملة في أوروبا أيضاً، بل ترافق ذلك بنحو دائم باتخاذ بعض الإجراءات التي تتنافى مع مصالح مختلف الأقليات العرقية والدينية في أوروبا أو تتعارض مع مصالح الأقليات والسكان المحليين. وخلال السنوات الأخيرة في أعقاب نشوب أزمات لاسيما في الشرق الأوسط وأفريقيا بدأت أمواج كبيرة من مجموعات الأقليات المهاجرة بالتوجه إلى هذه الدولة (ألمانيا)، وحتى هذه اللحظة لم تتمكن الدول الأوروبية من اتخاذ إجراءات وإبداء ردود أفعال متناسقة لجهة مواجهة هذه الأزمة. وخلال العقد الحالي تم اتخاذ إجراءات مناهضة للانسانية وبرزت صعوبات جمة لجهة مواجهة هذه القضية. لكن بمعزل عن التحديات الناشئة عن تواجد الأقليات في الدول الأوربية، فإن قدوم الأقليات إلى أوروبا وتواجدها في بعض الدول أتاح في بعض الأحيان خياراً إيجابياً حيال زيادة الإمكانيات والمقدرات الاقتصادية للدول الأوروبية.
وتعدّ ألمانيا إحدى هذه الدول الأوربية التي خبرت بعد عام 1960 عدة تجارب بخصوص قبول المهاجرين ومنها تواجد المهاجرين الأتراك على أراضيها.
هذا وتسبب الساسة الألمان في أعقاب إبرام اتفاقيات في عقد الستينات (1960) في قدوم الكثير من العمال الأتراك إلى بلادهم، وكانت أهدافهم تسعى بعد تحقيق الانتعاش والازدهار الاقتصادي في ألمانيا لعودة هؤلاء العمال إلى بلادهم مرة أخرى. لكن في الحقيقة لم يحدث هذا الأمر وبقي معظم هؤلاء العمال في ألمانيا حيث خلقوا بدورهم بعض التحديات البسيطة قياساً بالدول الأخرى التي تستقبل المهاجرين، وفي الوقت الراهن ينخرط الساسة الألمان في إيجاد طرق مؤثرة وفاعلة لحل هذه المشكلة.
لقد بلغت هذه الأزمة في المجتمع الألماني في ضوء غياب الانسجام مع المجتمع المدني واحتجاجات السكان الأصليين حداً أفضت فيه عام 2005 لإنشاء وزارة تهدف إلى دمج المهاجرين وجعلهم ينسجمون مع المجتمع الألماني. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إحداث هكذا وزارة في ألمانيا.
لقد تمكنت هذه الأقليات من تشكيل أهم المجموعات العرقية في المجتمع، حيث تعتبر هذه الاقليات المهاجرة أهم طبقة تمتلك القوة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية. وتتحدث آخر الإحصائيات الموجودة في المواقع الرسمية الألمانية عن وجود قرابة ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف تركي في ألمانيا. حيث تسبب وجود الأتراك وهجرة أتراك تركيا إلى ألمانيا في ظهور تقارب اجتماعي وثقافي بين ألمانيا وتركيا.
وخلال العقود الماضية أُبرمت اتفاقية بين البلدين لانتقال العمال الأتراك إلى ألمانيا. ويعتقد البعض أن الكثير من الأتراك المهاجرين إلى ألمانيا وبعد قضاء فترة من العيش واكتساب المهارات عادوا إلى دولهم ولاسيما تركيا وكانوا سبباً في انتعاش وازدهار بعض القطاعات. في المقابل يعتقد الساسة الألمان أنه لا ينبغي تجاهل دور الأتراك في تحقيق التطور والازدهار والمساعدة في تعزيز قوة ألمانيا. لكن الأمر الذي بدا واضحاً بنحو كبير أكثر من أي عامل آخر تمثل في أن الأتراك المهاجرين إلى ألمانيا شكلوا عامل فائدة لألمانيا في المجال الاقتصادي بشكل كبير، وفي الوقت الراهن انخرطوا في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، على نحوٍ يعتقد الألمان والأتراك أنه لا يمكن تجاهل دور الأتراك المهاجرين في ألمانيا في مجال الصناعة والسياسة أيضاً. وتواجه ألمانيا من الناحية الثقافية مجتمعاً متعدد الثقافات، حيث إن الكثير من الأتراك المهاجرين وصلوا إلى بعض المناصب وانخرطوا في المحاور الاجتماعية والحكومية أيضاً.
وعلى الرغم من أنه لا ينبغي تجاهل إصدار بعض الأحكام السياسية المسبقة من قبل ألمانيا، إلا أن ألمانيا تُعتبر أحد نماذج الدول الأوروبية التي تتمتع فيها الأقليات التركية المهاجرة في ذلك البلد بالمقدرات والإمكانيات الكبيرة في المجال الاقتصادي والسياسي، وفي بعض الحالات كان لهم تأثير واضح على السياسات الحكومية المتخذة. على سبيل المثال في بعض الحالات كانوا سبباً في انتهاج سياسات معتدلة إزاء بعض الدول مثل تركيا. وعطفاً على بعض الإجراءات التركية مثل فتح حدودها أمام المهاجرين ودخول الكثير من الأتراك إلى اليونان، نشبت خلافات عديدة بخصوص المهاجرين الأتراك في هذه الدول حيث تتصاعد هذه الأزمة يوماً بعد آخر وتتزايد مخاوف هذه الدول.
وبناءً على ذلك خلقت مسألة فتح الحدود من قبل الحكومة التركية لدخول المهاجرين إلى أوروبا مشكلة كبيرة أمام أوروبا ودفعتها للتصدي لهذه السياسة التركية، كونها أقحمت أوروبا في مواجهة موجة كبيرة من الأقليات التركية والكردية المهاجرة. وإن انخراط الدول الأوروبية في معالجة هذه المسألة سيتطلب إنفاق أموال كبيرة ولاسيما في ضوء التحديات التي تفرضها المجموعات التي ترغب بتشغيل عمال غير محليين يقبلون بتقاضي أجور منخفضة في العمل.
ربما يتمثل أحد أهم مخاوف أوروبا وألمانيا حيال قدوم الأقليات التركية في خطر إسلاميتهم وتصاعد النزعة الإسلامية في أوروبا، حيث تواجه ألمانيا المشكلة ذاتها أيضاً.
فضلاً عن ألمانيا ففي الكثير من الدول الأوروبية مثل بلغاريا ورومانيا ثمة وجود كبير للأتراك هناك، وهو الأمر الذي يفضي إلى ازدياد عدد الأتراك المهاجرين من كل بقاع العالم في هذه الدول. لكن في الحقيقة فشلت الدول الأوروبية في انتهاج سياسة موحدة لجهة إدارة قدوم المهاجرين من الأقليات إلى بلدانهم. فبعض الدول الأوروبية استفادت من هذه الإمكانيات بهدف زيادة التقارب الذي يتمثل أنموذجه الأبرز في تعزيز الأسواق المشتركة التي تعد إحدى الوجهات لنشاط تلك الأقليات.
وفي ضوء غياب سياسة واستراتيجية موحدتين متبعتين في عموم أوروبا وفي سياق نشوب أزمات في الكثير من دول آسيا وأفريقيا، بدأت موجة جديدة من هجرة الأقليات وما زالت هذه الموجة مستمرة. لكن بما يخص بألمانيا التي حققت تطوراً وتنمية، تدرك الأقليات التركية المهاجرة عدم تجانسها مع مجتمعها، ويبدو أن ألمانيا لم تعد بحاجة إلى هذا العدد الكبير من المهاجرين في مجال الصناعة والاقتصاد، لذلك تسعى لتقليص عددهم. ففضلاً عن ألمانيا ثمة مساع متعددة من الاتحاد الأوروبي لتجاوز معضلة الهجرة والتوصل إلى اعتماد سياسة موحدة في هذا الشأن.
المصدر: معهد دراسات السلام الدولي IPSC