المقدمة:
أعادت احتجاجات الأول من تشرين الأول 2019 مسألة التعديلات الدستورية إلى الواجهة مجدداً بوصفها جزءاً أساساً من إصلاح النظام السياسي العراقي الذي وصل إلى نهايات أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنها صعبة على وحدة البلاد وانسجام أبنائه.
وقد كتب الدستور في ظروف بالغة التعقيد، وتحت ضغط الاعتداءات الإرهابية، ووجود الاحتلال الأمريكي، ومقاطعة انتخابية من بعض المكونات، وخوف المتصدين للعملية السياسية من شبح النظام الدكتاتوري السابق. ومع ذلك خرج الدستور ليحمل مضامين مهمة شكلت الحد الأدنى من التوافق بين فئات الشعب العراقي، ومنطلقاً لبدء مسيرة بناء الدولة، وصياغة الأمة العراقية العتيدة؛ إلا أن تجربة السنوات الماضية من العمل التشريعي والقانوني المتراكم أثبتت أن جزءاً من فساد النظام السياسي وعقمه في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، فضلاً عن تلكؤه في تقديم الخدمات للعراقيين يعود إلى الدستور، أو تفسيراته، أو القوانين التي بنيت عليه؛ وبذا صار لزاماً التفكير بجدية أكبر لفتح حوار وطني شامل لتعديل القانون الأساس أو حتى إعادة كتابته من جديد بعيداً عن تلك الضغوط التي أنتجت الدستور الاتحادي للعراق عام 2005.
وسبق الدستور الدائم لعام 2005 وثيقة قانون إدارة الدولة المؤقت التي شددت على الطابع الديمقراطي التمثيلي التعددي للدولة العراقية بشروطها ونواظمها المعروفة، مثل: النظام الفدرالي واللامركزية والتوافقية واقتصاد السوق الحر المشفوع بنظام خدمات وضمان اجتماعي، ورغم ذلك فإنه لم يحظ إلا بتأييد القادة الذين كتبوه، الذين كانوا أعضاء في مجلس الحكم الانتقالي آنذاك.
وبعد إقرار قانون إدارة الدولة المؤقت نظمت انتخابات لتشكيل الحكومة المؤقتة وجمعية وطنية لكتابة الدستور، إذ شكلت لغرض ذلك لجنة مؤلفة من 28 شيعياً، و15 كردياً، و15 من القوى العلمانية و5 من الأقليات، فضلاً عن 15 من العرب السنة كان 2 منهم منتخبين فقط.
وعلى الرغم من السرعة التي أُنجزت فيها عملية كتابة الدستور إلا أنها كانت التجربة الأولى للعراقيين منذ تأسيس الدولة كي يحظوا فيها بدستور دائم كتب بأيدي عراقية وضمن اهتمام غير مسبوق من قبل المختصين والأكاديميين، ومنظمات المجتمع المدني، والقوى السياسية.
وكان من الواضح منذ البداية أن المطالب الشيعية التي مثلتها أحزاب إسلامية في الغالب، ركزت في مفاهيم الأغلبية ودور الإسلام والأحوال الشخصية لكنهم انقسموا بشأن مسألة تأييد الفدرالية. أما المطالب الكردية فقد ركزت على الفدرالية الإثنية، وتوزيع موارد النفط والغاز، والتوافقية وشكل معتدل من مدنية النظام يضمن الحريات العامة وحقوق المرأة. أما السنة العرب فقد كانت مشاعرهم مركزة بالأساس نحو هوية الدولة العربية، رافضين تعددية النظام، واجتثاث البعث، واللامركزية، وتوزيع الموارد، إلا أنهم لم يعارضوا الفدرالية الكردية دون غيرها.
وأشّرت تجربة دستور عام 2005 إلى التخلي عن شروط النظام التعددي مثل: التوافقية، وعلوية الاتفاقيات، والمعاهدات الدولية، إذ إنه مال إلى أن يكون دستور الأغلبية الخائفة من تجارب الماضي، من دون أن يُمضي ذلك حتى النهاية. فمثلاً أثبتت التجربة العملية لتطبيق الدستور استحالة تشكيل حكومة من دون توافق، على الرغم من انعدام نواظمها المعروفة، مثل: حق الفيتو الذي أُلغي في الدستور الدائم بعدما كان موجوداً في قانون إدارة الدولة.
إن السياقات التي كتبت بها الدستور العراقي واستعماله مصطلحات غريبة عن الفقه القانوني مثل (المكونات)، فضلاً عن التجربة التطبيقية أثبتت أن النظام السياسي الجديد يراعي مصالح الجماعات الكبرى (شيعة، وسنة، وكرداً) وليس مصالح المواطنين بعيداً عن انتماءاتهم وهوياتهم الفرعية، مرسياً قواعد المحاصصة الطائفية والإثنية وإن لم يتبنّ ذلك صراحة.
أضف إلى ذلك أن التجربة التطبيقية للدستور أثبتت أن من كتبه أغفل كثيراً عن الظواهر المعتادة في الأنظمة السياسية مثل: عدد نواب رئيس الجمهورية، أو وضعية استقالة رئيس الوزراء، أو حتى الكتلة التي تشكل الحكومة في حال خلو منصب رئاسة الوزراء، وغيرها من الحالات، عززتها تفسيرات مبهمة للمحكمة الاتحادية أحياناً، وغريبةً على الفقه الدستوري أحيانا أخرى، التي بدت متأثرة بالظروف النفسية السياسية المعقدة التي أحاطت بالتجربة العراقية السياسية منذ 2003 حتى الآن.
إن عجز النظام السياسي حالياً عن تعزيز السيادة العراقية وحمايتها، وتقديم الخدمات للمواطنين، والمستويات المقلقة للفساد والابتزاز في مختلف مؤسسات الدولة، ترافق مع زيادة الوعي الجماهيري ونشوء جيل جديد من الشباب الرافض للسياقات التي كتبت بها الدستور الدائم. وكشفت تراكم الاحتجاجات النخبوية والشعبية والحزبية منذ 25 شباط 2011 حتى اليوم، عن ضرورة التفكير الجاد بإحداث تغيير جوهري يمس أساسات النظام السياسي الحالي، يؤمّن نسبة أعلى من التمثيل في النظام السياسي، وتوزيعاً أكثر عدالة للثروات، وتطبيقاً أشمل لقانون بالتساوي على جميع المواطنين.
وبعد انطلاق الاحتجاجات الأخيرة تشكلت لجنة لمراجعة فقرات الدستور العراقي الدائم، عززتها دعوات للمرجعية الدينية في النجف الأشرف بضرورة إجراء تعديلات دستورية بموافقة الجميع، قاصدة بذلك موافقة جميع المكونات، من دون منطق الإملاء أو الفرض بفعل الضغوط السياسية الآنية.
إن المؤلف الذي بين يديكم هو نتاج عمل بحثي لخبراء مختصين في القانون الدستوري والعلوم السياسية، وهم يشيرون في عملهم بوضوح إلى ضرورة تعديل إطار نظام الحكم الحالي من أجل انسجام أكبر بين السلطات المختلفة، وتشجيع سيادة القانون، وتحسين فرص المساءلة وإعطاء الجميع الحق بالمشاركة في صياغة الدستور يضمن إصلاحاً أساسياً في القضاء والنظام الانتخابي، والحكم الفدرالي، وعلاقة المواطن الفرد بالدولة، وكل ذلك على الرغم من الصعوبة البالغة لإجراء التعديلات بسبب الآليات المعقدة التي وضعها كاتبو الدستور الدائم لتنفيذ التعديل.
ويسر مركز البيان للدراسات والتخطيط تقديم هذا الجهد للمهتمين وصناع القرار والمعنيين بإجراء التعديلات الدستورية، على أمل أن يساعد في رفدهم بالدراسات الرصينة والقراءات المعمقة من أجل دستور قويمٍ خالٍ من الشوائب، عصيٍ على التفسيرات الخاطئة، أو الانحراف عبر طريق التمثيل الصحيح للمواطنين، أو الرقابة الصارمة على أجهزة الدولة.