أحمد الطبقجلي: كبير مسؤولي الاستثمار في صندوق آسيا فرونتير كابيتال العراق “AFC”، وهو زميل أقدم في معهد الدراسات الإقليمية والدولية (IRIS)، وأستاذ مساعد في الجامعة الأمريكية في العراق (AUIS).
في الثالث عشر من تشرين الأول، أقر مجلس وزراء العراق الورقة البيضاء للإصلاح المالي والضريبي. وفي حين قد تبدو الورقة ظاهرياً وكأنها حزمة إصلاح اقتصادي أخرى في استجابة لأزمة مالية أحدثها انخفاض عائدات النفط، فمن المرجح أن تُنسى هذه الأهداف النبيلة بمجرد أن تعمل أسعار النفط المرتفعة على إنقاذ الدولة من وضعها المزري الحالي. إلا أن الورقة -وهي الأولى من نوعها لأي حكومة عراقية- تحدد خطوط الصدع في الاقتصاد والنظام السياسي الذي يرعاها. ومن دون أن يذكر هذا على وجه التحديد، فإنه يهدف إلى قلب الوضع الراهن الراكد عبر اقتراح إعادة تحديد دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع بعيداً عن الأنموذج السابق الذي ساد في أثناء سبعينيات القرن العشرين، الذي انتشر إلى مستويات غير مستدامة في سنوات ما بعد حرب 2003.
إن الهدف الرئيس لعملية الإصلاح والسبب الرئيس لأزمة العراق المالية والسيولة هو ميزانيته غير المتوازنة هيكلياً، الأداة التي من طريقها وسّعت الدولة دورها في الاقتصاد والمجتمع وحافظت عليه. ويعد الانضباط المالي الحقيقي من بين العناصر الأولى التي أُدخلت، وهو جزء من تحوّل هيكلي طويل الأجل إلى الميزانية الاتحادية التي من المتوقع إدراجها لأول مرة في ميزانية 2021؛ وهذا من شأنه أن يؤثر على الرواتب ونظام الإعانات بالكامل، الذي سيخضع للتخفيض تدريجياً على مدى السنوات الثلاث المقبلة، من 25%، و13% على التوالي في عام 2020 من إجمالي الناتج المحلي المقدّر، إلى 12.5% و5% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023. ومن بين أهم هذه المشاريع تقليص الدعم المالي المقدم للمؤسسات المملوكة للدول بنسبة 30% سنوياً.
ولكن تحقيق هذه الغاية محفوف بالمصاعب، نظراً للحساسيات السياسية والمصالح الخاصة بهاتين القضيتين. ويرجع هذا إلى أنها كانت الأدوات التي من خلالها مارس نظام ما بعد عام 2003 دوره القومي كموزع جديد للثروة النفطية مقابل الإذعان الاجتماعي لحكمه، وبالتالي فإن أي تغيير قد يشكل بداية تفكك النظام.
وفي تطور واعد، أشار وزير المالية علي علاوي في مقابلة أجريت معه بعد موافقة مجلس الوزراء على الورقة البيضاء إلى أن “هناك إنكاراً أقل مقارنة بالسابق”. ولقد جاء هذا التحوّل في الموقف بعد الإدراك البطيء لحقيقة مفادها أن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة ويجب قبول توجهات الورقة البيضاء على مضض: وعلى الرغم من أن الأزمة الناجمة عن انخفاض أسعار النفط بسبب جائحة كورونا لم تكن متوقعة، فإن الاختلالات الهيكلية المتراكمة في الاقتصاد، التي تفاقمت بفعل الضغوط الديموغرافية، كانت ستؤدي حتماً إلى أزمة اقتصادية ومالية مماثلة. فضلاً عن ذلك، تؤكد الورقة البيضاء أن الأزمة الحالية تجلت في مأزق الميزانية الذي لا يمكن حله نتيجة لارتفاع عنصر الإنفاق الحالي مقابل أسعار النفط المتغيرة وغير المتوقعة (انظر الجدول أدناه)، كما قد يحدث في أزمة محتمة مستقبلية.
لذا -وبصرف النظر عن الافتراضات المختلفة التي وضعت لعامي 2020 و2021- فإن الموازنة الاتحادية ستتكبد عجزاً كبيراً لا يمكنها تمويله كما كانت تفعل في الماضي (أي من خلال الجمع بين المتأخرات المتراكمة للقطاع الخاص المحلي، وشركات النفط الدولية عبر الاقتراض الخارجي والمحلي). وتتمثل طريقة التخلص من النهج السابق في تراكم متأخرات القطاع الخاص المحلي الذي سيؤدي إلى تضخم الضغوط المترتبة عن فيروس كورونا على الاقتصاد المحلي، في حين أن الدعم الأجنبي غير مرجح؛ نظراً لارتفاع الإنفاق الذي تم حتى الآن، ومن المرجح أن يزداد في الحكومات في جميع أنحاء العالم -قدّرها صندوق النقد الدولي (IMF) بمبلغ 11.7 تريليون دولار أو 12% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي التقديري لعام 2020- لدعم الأسر والشركات لمواجهة الآثار السلبية للوباء. وفضلاً عن ذلك، فإن الاقتراض المحلي، الذي كان مسؤولاً عن القسم الأعظم من الاقتراض في أثناء أزمتي تنظيم داعش الإرهابي في المدة بين 2014-2017، وانخفاض أسعار النفط، لا يمكن الاعتماد عليه في الأزمات الحالية؛ لأن مستويات الديون أصبحت الآن أعلى مما كانت عليه في أوج الأزمات الأخيرة (انظر الجدول أدناه).
في نهاية المطاف، ما لم يتم تنفيذ الإصلاحات التي تقترحها الورقة البيضاء، فإن الطريق الوحيد المتاح هو التمويل النقدي غير المباشر من قبل البنك المركزي العراقي، الذي سيؤدي حتماً إلى تراجع احتياطياته. وقد تنخفض هذه الاحتياطيات إلى مستويات منخفضة بنحوٍ خطير في غضون تسعة أشهر فقط؛ مما يسبّب إلى خلق أزمة في العملة وخفض محتمل في قيمة الدينار العراقي (انظر الرسم البياني أدناه).
وفي حين ترى النخبة السياسية أن تخفيض قيمة العملة هو الحل الأفضل لتوسيع عائدات النفط المتناقصة للدولة لتغطية نفقاتها -ولاسيما نفقات الرواتب والمعاشات التقاعدية- تزعم الورقة أن جميع هذه المشكلات ستُحَل مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات بخطى ثابتة مع انخفاض قيمة العملة. وهذا من شأنه يؤدي إلى زيادة في تكاليف المعيشة؛ وبالتالي تدني معايير المعيشة لدى غالبية السكان -المقدرة بـ 40.2 مليون لعام 2020- نظراً لاعتماد البلاد الشديد على الواردات لتلبية استهلاك السلع والخدمات.
وعلى الرغم من أن التوقعات والتكهنات بشأن العراق تبدو محبطة، فإن هذا الإحباط يَعِدُ أخيراً بإطلاق العنان لإمكانات العراق وهو الضامن الفعّال الوحيد لنجاح الإصلاح. إن توصيات الورقة البيضاء، على الرغم من صعوبة تنفيذها، ممكن تحقيقها. والعقبة الحقيقية التي تحول دون الإصلاح هي الافتقار إلى الإرادة السياسية للعمل على الإصلاح، أو بنحوٍ أكثر دقة، الإرادة السياسية القوية للحفاظ على الوضع الراهن. بيد أن شدة الأزمات الحالية أغلقت الباب أمام التدابير المخصصة غير الجادة في الماضي، ولم تترك أي خيار سوى الإصلاحات الهيكلية.
المصدر: