أثّرت الأوبئة -منذ القديم- (الطاعون، والجذري، والملاريا، والكوليرا، والإنفلونزا الإسبانية، وغيرها) على الحضارات؛ فكان للعديد منها تداعيات كبيرة على المجتمعات، بدايةً من العدد الكبير للوفيات التي خلّفتها، وصولاً إلى جعل البشر يفكرون بشكل أعمق في الوجود البشري. فبعدما خطت البشرية (ولاسيما الدول المتقدمة) خطوات متسارعة نحو التقدم والرقي في عدة مجالات، ظهر فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ليُحدث اضطرابات واختلالات على مستوى جميع دول العالم -بتفاوت- فهذه الظاهرة الخفية طالت جميع الأنساق الدولية في بنيتها المادية والوظيفية، وأثّرت على السلوكيات والأنشطة اليومية الروتينية للإنسان (الذهاب للعمل، الدراسة، التفاعلات الاجتماعية).
لذا موضوع أزمة كورونا موضوع متشعِّب تشعُّب تأثيراته على مجالات وقطاعات عدة، فلا يمكن التطرق إليه بمعزل عن الانعكاسات السياسية، والاجتماعية، والأمنية. غير أن معظم الرؤى والنقاشات الأكاديمية وغير الأكاديمية تتعاطى مع هذه الجائحة باعتبارها جملة مترابطة من المشكلات والقضايا التي يستوجب حلها والتخفيف من حدتها، لكن الأنسب في ظل هذه اللحظة التاريخية الفارقة -التي بالإمكان اعتبارها نقطة تحول في حياة البشرية- البحث العميق في أسبابها ومساءلة فواعلها، ولاسيما أن الطابع الدولي التي تتميز به هذه الأزمة، والتوقعات بالامتداد الزمني لتأثيراتها لا شك أن له انعكاس على بعض حقول المعرفة الإنسانية وأطرها النظرية التي كانت مستقرة لسنوات.
وبعيداً عن الجدل العالمي بشأن إذا ما كان فيروس كورونا تم تصنيعه مختبرياً، ومن هي الدولة أو الجهة المسؤولة عن ذلك، أهدافها… الأكيد أن دول العالم تواجه فيروساً له قدرة عالية على الانتشار مُسبباً العديد من التهديدات والمخاطر على دول العالم قاطبة. والملاحظ عموماً أن التعاطي مع هذه الأزمة ما يزال يركز على البعد الصحي، لكن الضرورة تستدعي استحضار أبعاد أخرى لمواجهة ما أحدثته هذه الأزمة والتعامل معها بكفاءة، فهذا التحدي يستوجب الوقوف على مجمل التداعيات ومسبباتها للوصول لاستراتجيات أكثر نجاعة لمواجهة هذه الظاهرة (فيروس كورونا)، وهو الهدف الذي تصبو إليه الدراسة.
لذلك أن توضيح تداعيات أزمة كورونا الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والسياسية من الأهداف الرئيسة التي تسعى الدراسة بلوغها، فضلاً عن رصد استراتجيات مواجهتها والوقوف على الدور الحكومي فيها على المستوى الداخلي والخارجي. وهذا لغرض إبراز المسلمات، الاستراتيجيات، السياسات، المدركات، القيم والسلوكيات التي قد تُغيّرها الجائحة.
وانطلاقاً مما تقدم، إشكالية الموضوع تتجلى في: فيما تتمثل استراتجيات مواجهة أزمة كورونا في ظل توسُّع انتشار تداعياتها؟ وتسعى الدراسة الإجابة على التساؤلات التالية: ما هي الأسباب المباشرة وغير المباشرة لأزمة كورونا؟ كيف أثّر الحجر الصحي على الدول والمجتمعات؟ كيف ستؤثر الجائحة على سياسات الدول الأمنية، الاقتصادية والاجتماعية؟ ما هي مجمل تأثيرات فيروس كورونا المستجد على العملية السياسية في الأنظمة الديمقراطية والأوتوقراطية؟ ما محل الدور الحكومي في استراتجيات مواجهة تداعيات كورونا؟ هل بإمكان الدول النجاح في مواجهة آثار الجائحة منفردةً؟