رأفت البلداوي: باحث متخصص في الشؤون الاقتصادية، ماجستير في الدراسات المالية – جامعة بغداد.
في العراق، يتحدث الجميع ممن هم صناع قرار، وسياسيون فاعلون، ومختصون في المجالات الاقتصادية المختلفة، عن الإصلاح الاقتصادي، باعتباره أحد أطواق النجاة للاقتصاد. في الحقيقة، لم تستطع أيّ من الحكومات التي تعاقبت على إدارة شؤون البلاد، من فعل شيء يذكر في هذا المجال، حتى أن جهود المنظمات الدولية والمحلية الفاعلة، لم تثمر نتائجها عن أكثر من شيء قليل متواضع؛ وهنا، يجب أن نعترف بشيء مهم، وهو أن الخطط والاستراتيجيات الموضوعة، فضلاً عن النصائح، لم تكن ذات قصور، بل إنها شخّصت الكثير من مكامن الخلل الذي من الممكن أن يُعالج، لكنها افتقرت إلى شيءٍ واحد -ولا نعرف هل كان بشكل متعمد أم لا- هو عدم تحليل أثر هذه الإصلاحات على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والانسانية؛ لذا، فإنها دائماً ما تواجه صدمات، وردات فعل حادة شعبياً، تجبرها على التراجع، حيث الحكومات التي تحاول الحفاظ على رصيدها السياسي، فضلاً عن محاولة عدم تحمل نتائج الأزمات التي تسببت بها سوء إدارة الحكومات السابقة.
مثلاً، دائماً ما يُطرح ملف يراه الجميع مهماً، وهو رواتب موظفي القطاع العام، المثقِل دوماً لموازنة الدولة، يتسابق السياسيون، فضلاً عن بعض المسؤولين الحكوميين مع كل أزمة، بطرح تخفيض رواتب الموظفين[i]، كأحد أهم الحلول لتجاوز الأزمات، في الحقيقة هذه الجزئية بحاجة إلى توضيح أكثر للقارئ، يتكون مرتب موظف القطاع العام من جزأين، الأول الراتب الاسمي الممنوح على وفق قانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام رقم 22 لسنة 2008، فضلاً عمّا يعرف بالمخصصات الثابتة، والجزء الآخر، مخصصات بعناوين مختلفة، مُنحت على وفق قوانين خاصة، وقرارات من مجلس الوزراء، المفارقة هنا، هي إن مجموع المخصصات التي يتقضاها الموظفون، تثقل الميزانية بواقع 23 مليار دولار تقريباً، في حين لا تثقل المرتبات الاسمية، الميزانية إلا بواقع 12 مليار دولار تقريباً فقط[ii]. لأول وهلة، تبدو هذه الأرقام لافِتة للنظر، وتدعو إلى اتخاذ تدابير عاجلة، وإنها بحاجة الى إصلاح سريع، لكن حسابات الأثر تجعلنا نتساءل، هل الرواتب الإسمية دون المخصصات الإضافية كافية لإعالة الأُسر ذات الدخل المحدود؟ إذا ما علمنا أن الراتب الاسمي قد لا يكفي لإيجار المنزل شهرياً، ولاسيما مع معدلات تضخم متصاعدة سنوياً، بنسب طبيعية مرة، وغير طبيعية مرات أخرى، وهذا السؤال يطرح تساؤلات أخرى فرعية: مثلاً، ما معدل الراتب الذي من الممكن أن يُعيل الأسرة؟ سؤال آخر: في حال لم يناسب الراتب الجديد دخل الأسرة الواجب توفيره، هل يستطيع الموظف في القطاع العام أن يجد وظيفة أخرى، بدخل أعلى، أو على الأقل وظيفة أخرى بدوام جزئي؟ أم ستنتقل بعض الأسر إلى الفقر وعيش الكفاف؟
مثال آخر على الاصلاحات الاقتصادية غير الجاهزة الآن، التي ينادي بها الكثيرون هذه الأيام، تخفيض سعر الدينار العراقي مقابل سعر الدولار الأمريكي[iii]، بغية مواجهة أزمة انخفاض الإيرادات الحكومية بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية، لكن نظرة بسيطة نحو الميزان التجاري الذي يبين واردات البلاد وصادراتها تظهر كارثة، (استورد العراق عام 2018 سلعاً بـ 45.7 مليار دولار فيما لم يصدر سلعاً (من غير النفط) إلا بواقع 101 مليون دولار تقريباً فقط)[iv]. والكارثة تكمن، بأن البلاد تستورد كل شيء تقريباً، ولا تصدر سوى النفط، وسلع بسيطة أخرى، ما يعني أن تخفيض سعر الدينار بواقع 30% مثلاً ينتج عنه انخفاض دخل الفرد بنفس النسبة تقريباً، الداعون لهذا المقترح دائماً ما يستندون، إلى أن القطاع الخاص سيستجيب بسرعة لهذا الارتفاع بأسعار السلع المستوردة، وقد تبدأ البلاد مستقبلاً بالانتاج الذاتي، لكن في ذات الوقت، لم يفكر أحد بمدة هذه الاستجابة!، ماذا إن لم يستجب القطاع الخاص، بالقدر الذي يجعل المواطن يتجاوز أزمته القاضية بتخفيض 3-% من قوته الشرائية. وإن هذا الإجراء يحمل في طياته الكثير من الأنانية المالية، تسعى الحكومة من خلاله، إلى حل مشكلة تواجهها في المالية العامة، حتى تستطيع الاستمرار في دفع رواتب موظفيها دون اقتراض، غير آبهة بحوالي ثلاثة ملايين من القوى العاملة في القطاع الخاص والذين قد يتأثرون بنحو مباشر بهذا القرار.
وضمن محاولات الإصلاح الضعيفة أيضاً، لدينا مثال قريب وواضح جداً، في بداية عمرها، أعلنت حكومة الكاظمي الحالية عن سلسلة إصلاحات في رواتب الموظفين والمتقاعدين، أولى هذه الإصلاحات بدأت بتاريخ 10/6/2020، بإجراء أقل ما يمكن أن يقال عنه (مجازفة)، حيث قامت الحكومة بتخفيض رواتب المتقاعدين المنخفضة أساساً بنسبة 10% [v]، وهذا التخفيض أثار غضباً عارماً في مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعاطف واضح مع الشريحة المتضررة، حتى من قبل غير المتأثرين بهذا الإجراء، هذا النموذج الفاشل من الإصلاح، دفع الكاظمي إلى إلغاء قراره، وإعادة المبالغ المستقطعة في اليوم الذي تلى الاستقطاع!
تمنحنا هذه الاصلاحات صورة واضحة عن كيفية إدارة أمور البلاد، دون اعتبارات اقتصادية واجتماعية وانسانية مهمة، وإن هذه الأحداث، يجب أن تدفع صناع القرار والسياسيين الفاعلين على فهم البيئة التي يعملون بها، وذلك مهم لسببين: الأول: ضمان مقومات النجاح، والآخر الكسب السياسي والحفاظ على الجمهور.
في الحديث عن مقومات نجاح الإصلاح الاقتصادي، وكمثال عمليّ ناجح، قامت حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018) بتخفيض رواتب كبار المسؤولين والدرجات الخاصة المرتفعة جداً[vi]، ولاقى هذه النوع من الإصلاح ترحيباً شعبياً واسعاً؛ مما أجبر المستفيدين من هذه الرواتب على الرغم من ثقلهم السياسيّ، على قبول هذا التخفيض بمرارة، كان لهذا الإجراء مقوّمين أساسيين دفعته للنجاح: الأول: الدعم الشعبي للقرار، والثاني: إن التخفيض جاء على رواتب مبالغ بها بالأساس.
بعد هذه النماذج من الجهود الضائعة هل نستسلم؟ أم نمضي ونستخدم استراتيجيات أخرى؟، إن إحدى هذه الاستراتيجيات الواجب اتباعها، هي المناورة في الإصلاح، وتتم هذه المناورة عبر الشروع بالإصلاحات ذات الآثار الإيجابية أولاً، وهنا، على الحكومة أن تعمل على إقناع الناس بأن هذه الجهود الإصلاحية، تصب لصالحها بالأساس، وهذا لا يمكن أن يتم من خلال الحديث إلى الناس وجهاً لوجه، بل بإعادة الثقة، من خلال بناء نماذج إصلاح ناجحة، ذات عوائد شعبية واسعة، مثال على ذلك، البدء بالإصلاحات الخاصّة بمكافحة الفساد، التي تؤدي نتائجها نحو إعادة جزء من أموال العراق المنهوبة، مثال آخر، البدء بإصلاح الهيكل المؤسسي، وإلغاء العديد من المؤسسات والمناصب الفائضة، فضلاً عن إدخال الأتمتة على بعض المؤسسات المعنية بتحصيل الإيرادات كالنقاط الكمركية والضريبية.
بعد البدء بهذا النوع من الإصلاحات، يجب على الحكومة العودة إلى المناورة مرة أخرى، لكن هذه المرة عليها أن تبدأ بالأقل أثراً، على ألّا يتم هذا إلّا بعد قياس أثر هذا الإصلاح، والنظر الى الشريحة المتضررة منه، بعين ثاقبة، كما عليها أن تقيس مدة هذا الأثر على الشرائح المتضررة، يجب أن يكون الأثر قصير الأمد؛ حتى تستطيع البدء بإصلاحات أخرى جديدة، دون تضرر شرائح واسعة بالمجتمع؛ مما يجعل الإصلاحات في النهاية أمام رفض شعبي واسع، يرغمها على العودة الى نقطة البداية.
لقياس ردات الفعل التي يمكن أن تحدث، على الحكومة أن تستخدم نماذجاً أكثر رصانة، حالياً تقوم الحكومة بجس نبض الشارع والناس، من خلال نشر بعض الأخبار عن أحداث غير متحققة فعلاً، من خلال مواقع وصفحات تواصل اجتماعي شبه رسمية، أو غير رسمية بالأساس، على أمل أن تحظى بدعم شعبيّ، يمكنها من تنفيذ بعض القرارات، لا نستطيع أن ننكر أنها طريقة فاعلة أحياناً، لكنها تفقدنا جانباً مهماً عند اتخاذ القرار، وهو “التحليل”، ردات الفعل في مواقع التواصل الاجتماعي تعطينا ردود أفعال واضحة، لكنها عامة ولا تساعد في اتخاذ قرار ما، بل إنها تعمل على تثبيط الإرادة في التغيير نوعاً ما، يجب على الحكومة أن تستخدم استطلاعات الرأي لقياس ردات الفعل هذه، حتى تتمكن من تحليل البيانات، وتحويلها إلى معلومات مهمة، من شأنها إعطاء صورة واضحة، عما يريده الناس فعلاً، وتفصيلات عمّا تريده الطبقة المثقفة في المجتمع، مقابل رغبات الطبقة الشعبوية المسيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي غالباً.
أخيراً، يجب أن يعرف صناع القرار والناس وكل ذات مسؤولية وشأن، بأن على الاقتصاد أن يدفع عجلة السياسة، وإذا حصل العكس ودفعت السياسة بشكل ما، الاقتصاد؛ فهذا يعني بأن ثمة فساداً هناك، لا يمكن تبريره، وما تمر به البلاد الآن خير دليل.
[i].
Muhammad Al-Waeli, AN OVERVIEW OF IRAQ’S FINANCES, 1001 Iraqi Thoughts, https://1001iraqithoughts.com/2020/06/11/an-overview-of-iraqs-finances/ .
[ii].
Ali Al-Mawlawi, Economic Reform in Iraq: The Need for Focus and Persistence, Italian Institute For International Political studies, https://www.ispionline.it/en/pubblicazione/economic-reform-iraq-need-focus-and-persistence-27273 .
Muhammad Al-Waeli, Is Devaluing The Dinar The Answer To Iraq’s Financial Crisis?, 1001 Iraqi Thoughts, https://1001iraqithoughts.com/2020/06/02/is-devaluing-the-dinar-the-answer-to-iraqs-financial-crisis/ .
[iv].
Central Bank of Iraq, Statistics & Research Department, Annual Statistical Bulletin, 2018, p 94.
[v].
The outputs of the Seven Emergency Cell for Financial Reform, which was formed by the decision of the Council of Ministers in its second session on 12/5/2020.
[vi].
Council of Ministers Decisions, No. 292 of 2015, http://www.cabinet.iq/ArticleShow.aspx?ID=6380 .