مايكل روبن: باحث مقيم في معهد أمريكان إنتربرايز.
لم تكن الخطوة الدبلوماسية العراقية الأكثر أهمية في الشهر الماضي هي زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى واشنطن العاصمة، بل كانت قمته الثلاثية مع الرئيس المصري عبد الفتاح، السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني في عمان الأسبوع الذي أعقب الزيارة.
وكانت زيارة الكاظمي إلى واشنطن، بعد زيارة طهران في شهر تموز، ناجحة بكل المقاييس، إذ لم تشهد زيارة الكاظمي إلى البيت الأبيض أي عوائق. ووقع الوزراء المرافقون لرئيس الوزراء العراقي عدداً من العقود المهمة؛ لتعزيز قطاع النفط في العراق وتمكينه من أن يصبح أكثر استقلالية في مجال الكهرباء. وعقد الكاظمي اجتماعاً متأخراً ولكن ناجحاً مع رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.
وقد يؤدي قرار جورج دبليو بوش للإطاحة بصدام حسين إلى نقاش حاد في السياسة الخارجية في واشنطن، لكن العراق اليوم بلد مختلف تماماً، إذ ولد أكثر من 40% من العراقيين بعد حرب عام 2003، وعلى مدار أكثر من عقد من الزمان، كانت مشاركة العراقيين مختلفة جوهرياً عن توقعات الولايات المتحدة تجاه العراق. إن الوقوف إلى جانب بيلوسي يعني ولادة حقبة دبلوماسية جديدة يمكن للتطبيق العملي فيها أن يتفوق على الجدال.
إن سعي بغداد لموازنة علاقتها بين طهران وواشنطن ليس بالأمر الجديد؛ إذ تتدخل كل من إيران والولايات المتحدة بانتظام في السيادة العراقية. ويقلّل الأمريكيون تقليدياً من الأهمية النفسية للاحتلال بينما يستخف الإيرانيون بالقومية العراقية. وبينما يتخيل المسؤولون الأمريكيون والإيرانيون غياب الآخر الطرف الآخر، إلا أن الواقع أكثر فوضوية. ويمكن للعراقيين أن يخلقوا مساحة للعمل المستقل فقط عندما تردع إيران، والولايات المتحدة بعضهما البعض.
ولا تعدُّ الموازنة بين واشنطن وطهران مصدر القلق الوحيد للكاظمي، إذ ينجذب العراق بنحو متكرر إلى التنافس بين إيران ودول الخليج العربية الذي تحركه الجغرافيا والعرق والدين وكذلك السيطرة ولاسيما بعد سقوط نظام الشاه عام 1979. خلال الحرب العراقية-الإيرانية، انحازت كل الدولة العربية باستثناء سوريا إلى العراق. لقد أدى غزو صدام حسين للكويت عام 1990 إلى تآكل الدعم الخليجي للعراق الذي لم يكن كافياً لدفع دول الخليج إلى أحضان إيران.
بعد الإطاحة بصدام، تغيّر موقف الخليج. وربما سعى صدام لاستخدام النزاع مع الكويت لمصلحته الخاصة، لكنه لم يأتِ بثماره، فعلى المستوى الشعبي، يستاء الكثير من العراقيين من الكويت ككيان مصطنع وُلد من السيطرة البريطانية ومبارك بالنفط الذي يعتقد العراقيون أنه حق لهم (كثير من عرب الخليج يكرهون الكويتيين أيضاً). ومع ذلك، فإن الكثير من التحليلات الغربية التي تعتمد على الطائفية بشأن العراق ليست ذات صلة؛ لأن الديمقراطية العراقية مكنت المجتمع الشيعي المتنوع في العراق وزادته قوة. ورفضت العديد من دول الخليج والملك الأردني عبد الله الثاني هذا التمكين، وسعى العديد -بما في ذلك ربما الملك عبد الله الثاني- إلى عكسه عبر تمويل التمردات. وحتى بعد أن أعادت الولايات المتحدة السيادة العراقية رسمياً رفض العديد من الدول العربية إعادة فتح سفاراتها. وبينما اشتكت الدول العربية من تنامي النفوذ الإيراني في العراق، إلا أنها لم تمنع ذلك لرفضها المنافسة على نفوذها.
كانت تلك فرصة ضائعة؛ لأن عرب الخليج لهم يد أقوى مما أدركه الكثيرون. تعد البصرة خليجية ثقافياً، وتأريخياً، كان اقتصادها أكثر ارتباطاً بالتجارة مع الخليج كما هو الحال مع بغداد. وأعرب العراقيون بغض النظر عن طائفتهم عن استيائهم من إغراق إيران للعراق بالسلع المصنعة الرخيصة، الأمر الذي أدى إلى زيادة تقويض الانتعاش الصناعي للعراق، بينما كانوا يرحبون بالاستثمار الخليجي. ومع ذلك، فإن عراق ما بعد عام 2003 ديمقراطي؛ مما أدى إلى زيادة الفجوة في الثقافة السياسية بين بغداد والأنظمة الاستبدادية الخليجية.
الكاظمي تكنوقراط ولكنه مثقف أيضاً، فإنه يسترشد بالقومية والرغبة الصادقة في إرساء أسس مستقبلية ثابتة للعراق أكثر مما يسترشد بالاعتبارات الحزبية. وفي غياب أي دائرة انتخابية حقيقية، يتصرف الكاظمي نيابة عن الأمة ككل، ولا يسمح للمصالح الخارجية بتقييد خياراته.
ومن هنا جاءت قمة الأسبوع الماضي، فبالتوجه نحو مصر والأردن، يقوم الكاظمي بأمرين: أولاً: يتجاهل الخصومة بين الولايات المتحدة وإيران والخليج العربي. وبدلاً من أن تكون الكرة السياسية بين الكتل المتنافسة، يرفض الكاظمي ببساطة تشجيع المنافسة؛ بل يسعى إلى ضمان أن يتم تقييم العراق كلاعب متساوٍ بدلاً من كونه أرضاً يتم القتال عليها. صحيح أن كلاً من الزعيم المصري السابق حسني مبارك وعبد الله الثاني لعبا على الورقة الطائفية، لكنهما لم يحركاها في السنوات الأخيرة. ويبدو الآن أنهما يقبلان أن العراق ليس دمية لإيران، وهما يدركان أن التعاون بينهما سيتفوق على العراقيل، ويمكن أن يكون العراق جزءاً لا غنى عنه من تكتل معتدل في المنطقة.
يساعد الكاظمي أيضاً في دفع الآفاق الاقتصادية طويلة المدى للعراق. فالعراق غني من الناحية النظرية، لكن عقوداً من الحكم الشعبوي والفقر أعاقت تقدم البلاد. وبينما يرحب العراقيون بالاستثمارات الأمريكية والخليجية، إلا أنها غالباً ما تكون أحادية الاتجاه. ومن خلال الشراكة مع كل من مصر والأردن، يمكن للكاظمي ربط العراق بسوق أكبر بكثير وضمان خلق تجارة متوازنة.
إن أعظم أصول العراق هي شعبه وليس النفط، ولا يجب أن تنتهي المصالح العراقية عند المتوسط أو على حدود العالم العربي فالوقت ينفذ، إذ يستعد جيل الحرب في العراق بعد عام 2003 للدخول في سوق العمل، الذي لا يمكن للبلاد دعمه في الوقت الحاضر. يدرك الكاظمي أنه مع انتعاش اليونان من مشاكلها المالية وقبرص من تدمير جائحة كورونا لسياحتها، يمكن لكليهما الاستفادة من الامكانات البشرية العراقية؛ أدى العدوان التركي في شرق البحر المتوسط إلى إحجام اليونان وقبرص عن توظيف الأتراك، بينما لا يواجه العراقيون هذه القيود. ويمتلك اليونانيون والقبارصة علاقة جيدة مع العالم العربي، ولا يوجد سبب يمنع العراق من السعي للحصول على ميزة في هذا الوضع المربح للجميع، وقد ينقذ صمود العراق الموقف مرة أخرى.
المصدر: