إلى جانب الإثراء المعرفي الذي يكتسبه كل باحث وقارئ للتأريخ فإن مهارة التحليل والاستشراف هي الأخرى إحدى أهم مكتسبات هذه القراءة؛ حيث تمكن المهتمين من امتلاك القدرة على تحديد الأولويات، واتخاذ القرارات المناسبة في حينها ولاسيما إذا كانت تلك القراءات تختص بحياة الناس والتنمية الاقتصادية في بلدانهم. والسلع الدولية من العناصر التي تتطلب من أهل الاختصاص قراءة تأريخية ومستقبلية مستفيضة لأسواقها والعوامل المرتبطة بها وأهم الأحداث التي مرت عليها.
لقد أنشئت اتفاقية السلع الدولية عام 1957؛ لغرض تثبيت أسعار المنتجات الدولية والتحكم بالعرض والطلب، ونص ميثاق الأمم المتحدة للتجارة الدولية عام 1948 على هذا، ونُظّمت اتفاقيات متعددة من خلالها، منها على سبيل المثال: اتفاقيات “القمح، والقصدير، والسكر، والبن، والكاكاو”، ومثلت اتفاقية تنظيم أسواق القهوة بين المنتجين والمستهلكين التي تأسست عام 1962 إحدى أهم الاتفاقيات في هذا الشأن؛ فمن أجل المحافظة على الحصص والأسعار في سوق القهوة عُدلت الاتفاقية خمس مرات تقريباً، وتضمنت آلية العمل فيها تحديد السعر المستهدف، وتخصيص حصص التصدير لكل منتج بحيث حينما ينخفض سعر المؤشر أقل من السعر المستهدف تُخفّض الحصص، وإذا ارتفع فوق السعر المستهدف يتم زيادتها؛ حيث كان الهدف الأول للاتفاقية هو المحافظة على مصالح 25 مليون مزارع ينتجون 70% من البن في العالم من تقلبات السوق والاختلال في العرض والطلب ففي العام 1989 نشأ خلاف بين الدول الأعضاء في الاتفاقية لسببين: الأول تغير طعم المستهلكين تجاه القهوة معتدلة الجودة، والآخر مطالبة الدول المستوردة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بالقهوة عالية الجودة، والتوقف عن بيع القهوة بأسعار مخفضة للدول غير الأعضاء؛ ومن أجل تحقيق هذين المطلبين يتطلب الأمر موافقة البرازيل -أكبر منتج للبن في العالم- من أجل القبول بنظام حصص جديد، لكن البرازيل عارضت ذلك بشدة معتقدة أن الموافقة ستؤدي بها إلى خسارة حصتها السوقية كأكبر منتج عالمي؛ وعلى إثر ذلك انهارت الاتفاقية. أما المنظمة الأخرى التي تكرر معها سيناريو اتفاقية البن هي منظمة “مجلس القصدير الدولي” إذ تأسس عام 1947 من قبل كبار منتجي القصدير ومستهلكيه في العالم للأغراض نفسها التي تشكلت من أجلها منظمة القهوة وأي سلعة عالمية تقريباً للسيطرة على سوق القصدير الدولية، ومن خلال المجلس نُظّمت اتفاقية القصدير الدولية الموقعة عام 1954 إذ تضمن أهدافها الرئيسية “منع التقلبات المفرطة في سعر القصدير وتحقيق درجة معقولة من استقرار السعر على أساس سيضمن توازناً طويل الأجل بين العرض والطلب” لكن مع ظهور حاويات الألمنيوم والاستخدام الواسع لصناعة إعادة التدوير انخفض الطلب بنحو كبير على القصدير وفي تشرين الثاني 1985 لم يعد بإمكان مجلس القصدير الدولي الحفاظ على السعر حيث نفذ المال من سوق القصدير؛ بسبب توافر بدائل ذات جاذبية أكبر للمستهلكين.
أوبك بلس والمثالين السابقين
قد لا تصح المقارنة بين سوق “القهوة، والقصدير” من جانب وسوق النفط الخام من الجانب الآخر لما يمثله هذا السوق من أهمية قصوى وكبيرة في قطاع الطاقة العالمي لا يمكن الاستغناء عنه على المدى المنظور في أسوأ التوقعات، وفضلاً عن ذلك فإن الدول المنتجة للنفط الخام تحولت لدول ذات اقتصادات “مدمنة” على العائدات المالية الكبيرة للنفط، من الممكن أن نستحضر تأريخ اتفاقات السلع الدولية للتنبيه بضرورة إلى أن هذه الاتفاقيات بعضها يولد “مشلولاً” غير ذي نفع يرجى، والآخر يموت سريرياً؛ أي: بعد مدة من تشكيلها، والصنف الثاني هو على ما يبدو تحقق أو بدأ في عالم النفط.
مرت منظمة أوبك عقب تأسيسها “وهي منظمة تتكون من كبار منتجي النفط الخام في العالم على رأسهم “السعودية، والعراق، وإيران” بعواصف وأحداث متعددة كانت السياسة والصراع على النفوذ أهم محرك لها، بدءاً من أسقاط الشاه ومن ثم الحرب العراقية-الإيرانية إلى إسقاط نظام صدام عام 2003، فكل هذه الأحداث سببت ارتدادات واختلالاً كبيرين في أسعار النفط الخام حتى الوصول إلى عام 2016 الذي شهد أول انخفاض مؤثر منذ عام 2008؛ بسبب تراجع الطلب، وانتعاش صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة وكندا حيث وصل سعر خام برنت إلى 22 دولاراً مقارنة بـ100 دولار وأكثر عام 2014، كان حينها الإنتاج العالمي يبلغ 96 مليون برميل، ومعدل الاستهلاك اليومي بلغ 94 مليون برميل يومياً؛ الأمر الذي بدت معه أوبك عاجزة عن التحكم بالأسعار؛ بسبب تصاعد الإنتاج في كل من روسيا وأمريكا؛ لذلك أُنشئت “أوبك بلس” بمشاركة روسيا إلى جانب الأعضاء التقليديين في أوبك، وبات واضحاً للجميع بعد هذا أن المنظمة وحدها غير قادرة على ضبط إيقاع السوق بعد أن كانت لمدة طويلة لها الكلمة الفصل في ذلك والدلائل كثيرة منها الضرر الذي تسببت في أوبك؛ نتيجة للأزمة النفطية في أوربا عام 1973 من خلال قرار السعودية-إيران بمنع بيع النفط لأوروبا؛ نتيجة لمواقف الأخيرة المساندة لإسرائيل.
فشل الإنعاش السعري
في كانون الأول 2019 رغبت أوبك -وعلى رأسها السعودية- في تعميق الاتفاق عبر اقتطاع حصص أكبر من الاتفاق السابق؛ وجاء هذا بسبب النظرة غير المتفائلة لأسعار النفط بناءً على توقعات منظمة الطاقة الدولية ومعدلات النمو الاقتصادية في البلدان المستوردة، فضلاً عن فايروس كورونا؛ لكن روسيا رفضت المقترح؛ وهو ما أدى لفشل الاجتماع، فعلى إثر ذلك أعلنت أرامكو في خطوة تصعيدية تخفيض سعر البيع في نفطها إلى ما يصل لـ 8 دولارات تقريباً إلى جانب رفع الإنتاج، ومع هذه المستجدات انهارت أسواق النفط العالمية، حيث وصل خام برنت حتى 12 دولاراً للبرميل فيما وصل سعر الخام الأمريكي -0.37، وبعد مرحلة من حبس الأنفاس للمنتجين وصل الحال معها سبب الانخفاض الكبير في الأسعار إلى حدوث أزمة في قطاعات نقل النفط وتخزينه، وتدخل ترامب لإنقاذ صناعة النفط الصخري من الإفلاس من طريق اتصالين أجراهما مع محمد بن سلمان وبوتن؛ بهدف التوصل لاتفاق عادل وشامل يضمن إشراك جميع المنتجين في العالم؛ ونتيجة لهذا التفاهم عقد في 9 نيسان 2020 اجتماع أعلن فيه عن خفض 10% من المعروض العالمي ما يقرب من 12 مليون برميل و”يتوقع أن التخفيض الحقيقي أكبر من هذا الرقم بكثير”، ومع هذا الاتفاق عادت الأسواق لتنتعش بالتدريج.
الخلاصة
لست هنا بصدد الحديث عن مستقبل النفط على المديات المتوسطة والبعيدة، وكذا أن الحديث عن عصر “ذروة النفط” قد انتهى مع بداية فايروس كورونا هو أمر مبالغ، ما يهمنا هنا هو الجنبة التأريخية لأهم المؤشرات التي تتحكم بسوق السلع الدولية والنفط على رأسها “بدءاً من مرحلة الشباب وحتى الشيخوخة” إذ إن التوثيق التأريخي لكل اتفاقية كان قد سجل مراحل ذروة وصعوداً وانتعاش مذهلين “مرحلة الشباب” ومن ثم -ونتيجة لتراكم الخبرات وتنامي الصراعات والتقدم التكنولوجي- ولد ذلك كله منافسات أكثر جاذبية، فهذه الاتفاقيات تمر “بمرحلة الشيخوخة” يرافقها تفكك وانهيار لتلك الاتفاقيات وهذا ما حدث تماماً مع أوبك، فالمنظمة التي كانت تمتلك زمام الأمور في هذا القطاع وجدت نفسها عاجزة تماماً مع المستجدات الحالية نتيجة كل الأسباب التي تطرقنا لها؛ فعوامل التأثير على هذه السلعة باتت بالغة التعقيد حيث وصف رئيس شركة “BP” هذه الضبابية في سوق النفط بالقول: “لا أعتقد أننا نعرف كيف ستكون الأمور، لا أعرف بكل تأكيد”؛ لذلك لا بد من التحوط المبكر وعدم رسم السياسات الاقتصادية والمالية للدول بحسب اتفاقية أوبك بلس، ففي عام 2016 احتاجت السوق إلى التخلص من 1.5 مليون؛ من أجل المحافظة على أسعار متوسطة بينما احتاجت في 2020 للتعامل مع أكثر من 10 مليون برميل يومياً للوصول إلى عتبة 40 دولاراً، ولا يعلم الجميع كمية التقليص التي تتطلب للمحافظة على هذه المديات السعرية بعد عام أو أكثر وهذا درس تأريخي ينبغي أن نطالعه بهدوء، وعلى الجميع أن يدرك أن أوبك باتت في مرحلة الشيخوخة الآن.
المصادر