کامل حمید، مستشار مركز البحوث بغرفة التجارة في خرمشهر (المحمرة)
ترجع العلاقات الثنائية بين دولتي إيران والعراق على مر التاريخ وبحسب قربهما وحدودهما المشتركة، ويعود تأريخ هذه العلاقات في الأزمنة المعاصرة إلى عهد الإمبراطورية العثمانية وسيطرتها على مساحة شاسعة من منطقة الشرق الأوسط. لقد كان اندلاع الحرب التي استمرت ثماني سنوات بين البلدين بمثابة أحلك فترة في تأريخ العلاقات بين البلدين؛ لكن بعد تغيير نظام حزب البعث، تحسنت العلاقات بين البلدين وعادت العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى طبيعتها، واستأنفت المعابر الحدودية نشاطها من جديد؛ وبهذه المناسبة -ومن أجل إثبات حسن النوايا- فإن نظرة النظام السياسي الحاكم في إيران تجاه العراق شعباً وحكومة، تغيرت عبر رؤية جديدة تمثلت في زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في ذلك الوقت لهذا البلد، حيث كان أول رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي يزور العراق في عام 2008 وذلك منذ انتصار الثورة الإسلامية.
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات بين إيران والعراق موسعة جداً في المجالات الاقتصادية والتجارية، بحيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في فترة زمنية مقدارها سنتين أو ثلاث سنوات من حوالي 3-4 مليارات دولار حسب الجمارك الإيرانية إلى نحو 7 مليارات دولار، وفضلاً عن ذلك، يتعلق هذا الرقم فقط بصادرات إيران غير النفطية إلى العراق، دون احتساب تبادلات البلدين في مجالات المنتجات العسكرية والكهربائية والبترولية، ويمثل هذا الرقم 25 في المئة من إجمالي صادرات إيران غير النفطية؛ مما يجعل إيران الشريك التجاري الرئيسي للعراق، والنقطة المهمة هي أن العراق خفض وارداته بنسبة 30 في المئة خلال الفترة نفسها لأسباب مثل: غزو تنظيم داعش الإرهابي للعراق، والزيادة في الإنفاق العسكري، والانخفاض الحاد في أسعار النفط. (وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، 16 سبتمبر 2015، رقم الخبر: 81762315). وحسب آخر الإحصائيات الرسمية للبلاد، فإن حجم الصادرات من البضائع الإيرانية إلى العراق خلال العقد الماضي قد وصل من 2 مليار و762 مليون دولار في 2008 إلى 5 مليارات و150 مليون دولار في 2011، ومن 5 مليارات و949 مليون دولار في 2013 إلى ستة مليارات و424 مليون دولار عام 2017.
وعلى هذا الأساس، احتلت إيران المرتبة الثالثة في السوق العراقية بعد تركيا والصين اللتين صدرتا ما يبلغ قيمته 9 مليارات دولار و4/8 مليار دولار على التوالي إلى العراق، ولكن مع بدء العقوبات الأمريكية على إيران في عام 2018، تغيرت تلك المعادلة وتمكنت إيران من تسجيل رقم قياسي بلغ 9 مليارات دولار من الصادرات إلى العراق في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام الماضي، لتصبح الدولة التي تحتل المرتبة الأولى في السوق العراقية. (وفقاً لـ: حميد حسيني، الأمين العام لغرفة التجارة الإيرانية العراقية، وكالة مشرق نيوز، 10 أبريل 2009، رقم الخبر: 948953). وبناءً على ذلك، فإن الاتجاه المتزايد من التبادل التجاري بين إيران والعراق، الذي بدأ قبل أربع أو خمس سنوات، الذي بحسب اقتصاديين عراقيين، من غير المرجح أن يتوقف لعدة أسباب يمكن تلخيصها بإيجاز في المحاور التالية:
– زيادة الرحلات والتوسع في صناعة السياحة بين البلدين؛ الأمر الذي جعل المواطنين العراقيين على دراية بإمكانيات وقدرات الجمهورية الإسلامية الإيرانية. (على سبيل المثال، سافر مليونا عراقي إلى إيران في عام 2016).
– وجود العراقيين الذين عاشوا في إيران لسنوات عديدة وعادوا الآن إلى العراق وينشطون في مجال السوق والتجارة.
من المؤكد أنه مع هذا الكم الهائل من العلاقات التجارية والاقتصادية في الحجم الكلي، سيكون من الممكن ظهور اختلافات في كمية هذه العلاقات ونوعيتها؛ وفي هذه الفرضية، لا يبدو أنه يهم ما إذا كانت الاختلافات على مستوى العلاقات السياسية -أي تتعلق بالحكومة والمؤسسات التابعة للحكومة- أو برجال الأعمال غير الحكوميين (الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين)، وما سيكون مهماً هو طريقة ونوعية تسوية الخلاف، وليس جوهر الخلاف وسببه. ونظراً لأهمية هذا الموضوع، وُقّعت مذكرة تفاهم ثنائية بين منظمة تنمية التجارة الإيرانية ومركز التحكيم التابع لغرفة التجارة الإيرانية في عام 2018؛ وذلك بهدف إحالة الخلافات المحتملة لدى رجال الأعمال والجهات الاقتصادية الإيرانية على المستويين المحلي والدولي لحلها إلى مركز التحكيم التابع لغرفة التجارة الإيرانية. وتجدر الإشارة إلى أن مذكرة التفاهم هذه يمكن أن تساعد في المعالجة المهنية والمنهجية للخلافات في مجال القضايا التجارية والاقتصادية والاستثمارية، وتؤدي إلى تعزيز مكانة التحكيم في حل مثل هذه الخلافات. حيث بعد ذلك تم التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين خلال مؤتمر تجاري بين إيران وإقليم كردستان العراق، أقيم بحضور وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وتقرر تطوير علاقات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وإقامة وتنظيم العلاقات المصرفية بين إيران وإقليم كردستان العراق؛ من أجل تسهيل العلاقات التجارية بين نشطاء القطاع الخاص وتجهيز الدوائر الجمركية في النقاط الحدودية المشتركة، وإنشاء بوابة جمركية مشتركة بين إيران وإقليم كردستان العراق، وأن يقوم الجانبان بتنظيم نظام النقل، وكذلك إمكانية عبور البضائع اللازمة لإقليم كردستان عبر إيران وأيضاً استخدام طريق الشحن البري العراقي للوصول إلى أسواق سوريا، ولبنان، والأردن، والاستثمار المشترك في مختلف مجالات التنمية والصناعة في إقليم كردستان العراق، بما في ذلك البناء، والمطارات، وإنشاء الطرق، وبناء السدود، والزراعة، وصناعة المواد الغذائية، والسياحة، والسياحة العلاجية، والتعاون بين مراكز التحكيم بين غرفة إيران التجارية وغرفة تجارة إقليم كردستان؛ من أجل حلّ الخلافات المالية والتجارية بين إيران والجهات الفاعلة الاقتصادية في إقليم كردستان العراق، وأن يكون تشكيل لجان العمل المشتركة من ضمن نتائج هذا المؤتمر أيضاً. (كانت هذه أهم اقتراحات النائب المختص في الشؤون الدولية في غرفة إيران السيد محمد رضا كرباسي). “وفقاً لـ: صحيفة همشهري أونلاين، 17 ديسمبر 2016”.
وخلال آخر اجتماع رسمي عُقد بين الطرفين الإيراني والعراقي في طهران، إلى جانب التأكيد على التزام الطرفين بتطوير العلاقات التجارية وشرح السياسات الاقتصادية الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه جيرانها -ولاسيما العراق- فضلاً عن وصف العراق بالبلد الصديق والشقيق، أكد الاجتماع على العلاقات الودية بين البلدين على صعيد العلاقات الاقتصادية، وكذلك تسوية الخلافات التجارية (خاصة في مجال صرف العملات، والتغطية التأمينية، والنقل، والجمارك ومعايير الجودة الشاملة). وفضلاً عن ذلك، ذكر في الاجتماع أن الأنشطة الاقتصادية والتجارية الرئيسة بين البلدين حالياً تتمثل في أنشطة الشركات الإيرانية والنقابات والجمعيات المتخصصة لإعادة إعمار البنية التحتية والقطاع الفني للهندسة الصناعية وبعض البنى التحتية مثل: إنشاء الطرق، وبناء السدود، والزراعة، والصناعات الغذائية، والصناعة الزراعية، ومواد البناء؛ وهو الأمر الذي يتطلب الاهتمام المتزايد من قبل أصحاب الشركات التي تعمل في المجالات المذكورة آنفاً فيما يخص العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الجانب الآخر (أي الجانب العراقي). (وكالة الأنباء الإيرانية التابعة للإذاعة والتلفزيون، 7 أبريل 2009، رقم الخبر: 3394825).
وفي النهاية، يجب حل الخلافات والقضايا التجارية بين رجال الأعمال والشركات الإيرانية والعراقية على وفق اتفاقيات التجارة الاقتصادية الثنائية، وعبر الالتزام بالعادات والأعراف التجارية الإقليمية والحدودية، واحترام حسن نية الطرف الآخر، والتفاعل السياسي البناء والدبلوماسية الاستراتيجية بين الدولتين وأيضاً على وفق للنظام الأساسي لغرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة المشتركة بين إيران والعراق، والتي تمت الموافقة عليها في 08/06/2014 والتي ستكون سارية وتدخل حيز التنفيذ ابتداءً من 23/11/2014. وبحسب للمادة (6) من هذا النظام الأساسي، تتولى الغرفة المشتركة المهام الآتية:
14-6- التعاون والجهود المشتركة مع الغرف / المجالس المشتركة المماثلة في البلدين.
15-6- بذل قصارى الجهود بهدف حل الخلافات الناتجة عن العلاقات الاقتصادية بين الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين الإيرانيين والعراقيين من خلال التسوية والمصالحة وفي حالة الفشل، تشجيع أطراف الخلاف على حل الخلافات عبر مركز التحكيم التابع لغرفة التجارة المشتركة الإيرانية العراقية.
وعلى وفق البندين المذكورين آنفاً، ينبغي للغرفة المشتركة -وذلك في حدود واجباتها وصلاحياتها- أن تتدخل لتسوية الخلافات التجارية بين الأعضاء الإيرانيين والعراقيين وأن تبذل قصارى جهدها لحل النزاعات. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المادة (المادة السادسة والفقرات ذات الصلة) لا تتطرق لطريقة ونوعية التحكيم أو الوساطة.
ولكن من المؤكد أنه بحسب قانون التحكيم التجاري الدولي لإيران، والذي تمت الموافقة عليه في عام 2018 (لأن أحد الطرفين أجنبي ومكان إقامته خارج البلاد) أو بحسب اللوائح الدولية (إذا تم التوصل إلى اتفاق مسبق)، يجب القيام بالمعالجة اللازمة من قبل أعضاء مجلس إدارة الغرفة المشتركة أو من قبل الحكم الذي تمت الموافقة على اختياره من قبل الطرفين (إذا تم اختيار وترشيح حكم أو حكام)، يتم النظر في الموضوع المتنازع عليه وإصدار الحكم اللازم وتنفيذه إذا لزم الأمر.
ومن الجدير بالذكر -نظراً للتقارب الموجود في التقاليد والأعراف التجارية بين رجال الأعمال الإيرانيين والعراقيين (ولاسيما في الحدود الجنوبية للبلاد مثل حدود الشلامجة والجذابة)- غالباً ما يُصاغ نص الاتفاقيات والعقود التجارية باللغة الفارسية؛ لأن معظم رجال الأعمال العراقيين يستفيدون من الناطقين باللغة الفارسية أو الممثلين من أصل إيراني في إيران (على وجه التحديد مدينتي “عبادان” وخرمشهر “المحمرة”)؛ ولذلك، يلاحظ هذا الشرط بنحو أساس في نص عقودهم: “تحال جميع الخلافات والدعاوى القضائية الناتجة عن هذا العقد أو فيما يتعلق به، بما في ذلك إبرامه أو صلاحيته أو إنهائه أو انتهاكه أو تفسيره أو تنفيذه، إلى مركز التحكيم التابع لغرفة التجارة الإيرانية، على وفق قانون النظام الأساس وإجراءات التحكيم في ذلك المركز، يجب أن تتم تسوية الخلافات نهائياً، وذلك استناداً للقرار والرأي الصادر عن حكم واحد أو ثلاثة محكمين في عملية التحكيم. وفضلاً عن القواعد المعمول بها، سيلاحظ الحَكَم/ المحكمين أيضاً العرف التجاري ذي الصلة. ويعدُّ شرط التحكيم الحالي اتفاقاً مستقلاً عن العقد الأصلي وهو ملزم في أي حال من الأحوال.
ومن الواضح، أنه مع إدخال هكذا شرط في العقود والاتفاقيات التجارية، فقد اتفق الطرفان الإيراني والعراقي على تسوية خلافاتهما لدى جهات غير قضائية وبحضور الوجهاء، والوسطاء ودياً. ومن المؤكد أن المثال الواضح والمعروف لهذه الأساليب لحل الدعاوى القضائية سيكون “الرجوع إلى الحكم”، حيث كما هو موضح آنفاً، فضلاً عن الالتزام بالعادات والأعراف التجارية والاتفاقية الثنائية بينهما، وكذلك الامتثال للوائح الدولية (إذا تم التوصل إلى اتفاق في نص العقد الأصلي)، ينبغي حل الخلافات بين الجانبين الايراني والعراقي، بحسب قانون التحكيم التجاري الدولي لإيران، وبالطبع مع الأخذ في الحسبان النظام الأساسي للغرفة المشتركة بين إيران والعراق.
يبدو أنه بالنظر إلى المواقف السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والتجارية بين دولتي إيران والعراق، فإن مناقشة دخول وممارسة سلطات المنظمات والمؤسسات الدولية (القضائية وغير القضائية) في مجال القضايا الاقتصادية والتجارية بين الطرفين (سواء كان الخلاف على المستوى السياسي، أي بين الدولتين، أو من قبل القطاع الخاص، أي بين الشركات ورجال الأعمال الحقيقيين) يكون مرفوضاً؛ لأن خلق وجهات نظر ولقاءات مشتركة، تكون على أساس حسن النية وحسن الجوار والتفاعل الودي والبناء والدبلوماسية الاقتصادية الاستراتيجية ومشاركة الجانب الإيراني في حل مشكلات العراق الكبرى، ستؤدي إلى حجب قنوات أحد الطرفين عن تقديم شكوى أو التقاضي إلى المحافل والمؤسسات الدولية، وسيكون من المناسب تسوية الخلافات التجارية بين الجانبين بطريقة ودية تماماً، بعيداً عن الضوضاء، والدعاية السياسية أو التبعات القانونية.
وفي هذا المسار، سيكون من الضروري التعاون الجاد والبناء بين دولتي إيران والعراق وخاصة من قبل الوزارات المكلفة بالشؤون الاقتصادية والتجارية (وزارة الصناعة والتعدين والتجارة في إيران، ووزارة التجارة في العراق). ولا يمكن التغاضي بسهولة عن دور المؤسسات الأخرى المسؤولة عن التجارة الخارجية مع الجيران الإقليميين، مثل: منظمة تنمية التجارة الإيرانية، ومنظمة المعايير الوطنية الإيرانية، والغرفة الإيرانية للتجارة والصناعة والمناجم والزراعة، والغرف الأعضاء (ولاسيما غرف المدن الحدودية الغربية والجنوبية الغربية في البلاد).