مائدة أرکان– باحثة في القضايا التركية
إن تركيا -مثلها مثل معظم البلدان في العالم- تكافح ضد جائحة كورونا التي تركت آثاراً سلبية عميقة على التجارة والاقتصاد والصحة في البلاد، وأدت إلى مشكلات كبيرة، أجبرت مسؤولي الحكومة التركية على اتخاذ إجراءات في مجالي الاقتصاد والصحة، ولكن القضية الأهم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان هي تركيا في مرحلة ما بعد جائحة كورونا.
كيف يمكن إعادة إنعاش الاقتصاد الهش، الذي يعتمد على الاستثمار الأجنبي، وصناعة السياحة، والذي تعرض إلى أضرار بالغة في زمن الجائحة، كي يستطيع الحفاظ على سلطته واقتدار حزب العدالة والتنمية؟
إن وباء كورونا الذي أصاب العالم ولم تأمن أي بقعة في الأرض منه، يعد المتغير البيولوجي الأكثر تأثيراً في مجال التنمية الاقتصادية العالمية على مر القرون الماضية؛ وقد أدى التأثير الواسع النطاق لهذا المتغير على الشعوب والدول إلى اعتباره لاعباً مهماً على ساحة النظام الدولي. ويعتقد ماورو غيلين -وهو أستاذ في كلية وارتون في جامعة بنسلفانيا- أنه في حال كانت السياسة والحروب التجارية في السنوات الأخيرة اثنين من المصادر الرئيسة للقلق للاقتصاد، فنرى الآن أن لاعباً ثالثاً أضيف إلى هذه المجموعة فالفيروس التاجي أثّر على حياة كل إنسان وجعل مئات الملايين من الناس يبقون في الحجر الصحي؛ ولذلك، اضطرت الحكومات لمكافحة هذه الجائحة القاتلة، ولكن هذا الكفاح يتطلب تعاون جميع الحكومات والشعوب. ومن هذا المنطلق، قرر قادة القوى العالمية العشرون ضخ 5 تريليونات دولار في النظام الاقتصادي العالمي. لقد تحالف هؤلاء القادة الأقوياء من أجل تخصيص الدعم المالي وتنفيذ جميع التدابير الطبية اللازمة لمنع انتشار جائحة كورونا. إن تفشي كورونا الذي بدأ في مدينة ووهان الصينية وانتقل إلى الدول الأخرى، تسبب في نقل الكثير من الناس إلى المستشفيات، وأودى بحياة المئات في جميع أنحاء العالم.
ولم تكن تركيا محصنة ضد هذه الجائحة وكانت واحدة من الدول العشر الأولى في العالم من حيث عدد الإصابات بجائحة كوفيد-19، بحيث بلغ عدد المصابين 95646 حالة، وعدد الضحايا 6091 حالة، وعدد الأشخاص الذين تم شفاؤهم 76318 حالة حتى الثاني من شهر أيار. لقد أعلنت تركيا أول حالة إصابة جائحة كورونا في 11 آذار، وأول حالة وفاة في 17 من الشهر نفسه؛ ولذلك اتخذت الحكومة تدابير مهمة وواسعة الانتشار في جميع أنحاء البلاد بسبب تفشي هذا الوباء، ومن ضمن هذه التدابير: فرض قيود على حركة المرور في المدن، وحظر السفر بين المحافظات، وفرض حظر تجوال على المسنين ممن تتجاوز أعمارهم 65 عاماً، والإغلاق الكامل للرحلات المحلية والدولية، والتبرعات النقدية للأسر ذات الدخل المنخفض، وتوفير التسهيلات للشركات المتضررة، وزيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين، وإغلاق المدارس والجامعات، ومراكز التسوق والمكاتب الحكومية، وتوفير مساعدات غذائية لجميع المواطنين. وأعلن أردوغان أن الحكومة ستواصل الإجراءات والقيود للسيطرة على جائحة كورونا حتى نهاية شهر رمضان المبارك. وعلى وفق بعض المراقبين، فإن الحكومة التركية أخفت قضية تفشي جائحة كورونا لكنها اضطرت بعد ذلك إلى الإعلان عن المرض بعد الزيادة التي حصلت في عدد المرضى.
إن تفشي جائحة كورونا في تركيا، وتبعاً لذلك إغلاق الشركات وعدم دخول السياح، أدى إلى مشكلات اقتصادية، حيث انخفض إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي بنحو حاد إلى أدنى مستوى له في الأشهر الأخيرة منذ عام 2009، ويرجع ذلك في الغالب إلى إجراءات البنك المركزي التركي، الذي يحاول الحفاظ على قيمة الليرة بشكل مصطنع عن طريق بيع الدولار، إذ على وفق صندوق النقد الدولي، فقد بلغ احتياطي تركيا الأجنبي -باستثناء الذهب- 4/77 مليار دولار في نهاية شباط، في حال أن احتياجات البلاد المالية لعام 2020، تُقدر بنحو 170 مليار دولار. وتماشياً مع هذا الأمر، اتخذت الحكومة التركية خطوات لمعالجة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة كورونا. وعمل البنك المركزي التركي على تخفيض أسعار الفائدة المصرفية عدة مرات، وطالب أردوغان البنك الدولي بقرض قيمته 100 مليون دولار، ووافق البنك على ذلك. وفي هذا الصدد، قدمت حكومة أنقرة حزمة دعم لمنع انهيار الاقتصاد وقطاع الصحة.
وعقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اجتماعاً مع وزراء وممثلي المنظمات الخاصة والعامة في القصر الرئاسي، وخلال هذا الاجتماع الذي أطلق عليه أردوغان “درع الاستقرار الاقتصادي”، تم وضع حزمة دعم بقيمة 16 مليار دولار لمعالجة الأزمة التي سببتها جائحة كورونا، وهو الإجراء الذي تم من قبل دول أخرى مثل إيران والولايات المتحدة وألمانيا.
وفي السياق نفسه، أعلن زعيم المعارضة كمال قليشدار أوغلو عن حزمة مكونة من 13 بنداً في 23 آذار، داعياً إلى إعادة الموظفين المتعافين العاملين في القطاع الصحي وإعادة فتح مستشفيات أردوغان العسكرية، التي أُغلقت بعد الانقلاب.
لقد أدت إجراءات الحكومة التركية خلال فترة تفشي الجائحة إلى تقليل حدة الأزمة، ولكن آثار الجائحة ستتسبب في أضرار خطيرة للبلاد في مرحلة ما بعد الجائحة؛ بسبب الضعف الاقتصادي للبلاد في السنوات الأخيرة. وكتبت مجلة فورين بوليسي “أن مزيج الديون الخارجية وأزمة الصحة العامة والرئيس الذي يقوم باتخاذ القرارات بدلاً من شعبه من أجل الحفاظ على سمعته، يمكن أن يؤدي إلى كارثة”. ومع ذلك، فإن أنقرة ليست مستعدة للانكماش الاقتصادي الحتمي، حيث انخفض سعر الليرة التركية بأكثر من 14 في المئة مقابل سعر صرف الدولار الأمريكي هذا العام، ويظهر مزيد من الضغط على الشركات غير الحكومية التركية أن لديها حوالي 300 مليار دولار من ديون العملات الأجنبية (ثلث القروض قصيرة المدى). وهكذا، فإن انتشار جائحة كورونا أجبر السلطات التركية على دعم النقابات وأبناء الشعب؛ كي يتمكنوا من اجتياز هذه المرحلة الحرجة لانتشار الوباء، وهم يحاولون إنعاش اقتصاد البلاد وتنظيمه من خلال تقديم حزم الدعم وتلقي القروض من البنك الدولي وكذلك اجتياز مرحلة ما بعد الجائحة، التي ستكون حرجة على الأرجح. إن الاقتصاد عنصر مهم للحفاظ على قوة أردوغان وحزبه، إذ يحاول الحفاظ على الاستقرار السياسي للبلاد وتحقيق هدفهه، وهو أن تكون تركيا إحدى أكبر عشر دول في العالم في عام 2023.