د. ياسر عبد الحسين، دبلوماسي وأكاديمي عراقي.
لطالما كان سجل الأوبئة العالمي هو المحرك التأريخي في العلاقات الدولية، إذ تورد أقدم وثائق النظرية الواقعية ذلك في (قصة الحضارة) حينما أصاب الطاعون سكان أثينا القديمة خلال الحرب البيلوبونيزية الشهيرة لمواجهة مدينة إسبارطة في اليونان القديمة التي استمرت أكثر من سبع وعشرين سنة عام 430 قبل الميلاد، وشكل هذا الوباء تحدياً استراتيجياً ومتغيراً كبيراً في تلك الحرب التأريخية على خارطة العالم القديم.
لكن بعيداً عن أنسنة العلاقات الدولية أو شيطنتها، فإن في كل تصور من تصورات هذا العالم ثمة حالات من التفاؤل أو التشاؤم، لكن الحسم بينهما سوف يكون للواقع، وكما ذهبت القاعدة الذهبية للفكر الواقعي التي طرحها ثوسيديدس Thucydides (القوي يفعل ما يمكنه، والضعيف يعاني ما يجب أن يعانيه).
ومع هذا الوباء الكبير في مواجهة عدو البشرية (فيروس كورونا) المسبب لمرض (COVID-19) لا أتوقع حالياً أن تنتظر الشعوب كثيراً قيام المنظمات الدولية أو الأممية والمؤسسات الكبرى بدور كبير لإنقاذها، فالتعاون في زمن الفوضى صعب، ونحن نعيش في ألق الفوضى العالمية وهشاشة نظامها.
وإن كان ثمة تيار يرى أن عالم اليوم يمثل فرصة لتوحيد العالم والمجتمع الدولي، وبما يحقق أهداف تقارب الشعوب والمجتمعات كما يحصل في المراحل التأريخية بعد الحروب والأزمات والكوارث، فربما كان التعاون الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية له دور بارز، لكن ظروف عالم اليوم مختلفة تماماً، ففي سجل التأريخ كان التعاون الدولي في أعقاب الحرب يقوم عبر منظومة عمل من القواعد والرؤية المشتركة التي وضعت بعض الأسس للعمل المؤسسي.
لكن بطبيعة الحال فإن الدول لا تتعاون مع بعضها بعضاً دون أن تكون هناك مصالح مشتركة أو على الأقل مخاطر مشتركة، وتكون بمنزلة المحرك للتعاون في الأخطار الدولية -أكثر من دوافع الالتزامات- أي في إطار التعاون تحت وطأة الضغوط.
يمثل التعاون على وفق القاموس السياسي الأطروحة المعاكسة للصراع، إذ يشكل شيئاً أكبر من التشاور ونمطاً ينطوي على تطبيق سياسة تتبع خلال مدة من الزمن موجهة لجعل العلاقات الدولية أكثر ودية بفضل وجود آليات دائمة في مجال معين، ويستند إلى الإطار الدبلوماسي على أساس تقديم المساعدة الدولية لإنهاء مجاعة أو كارثة إنسانية تقدم بعض الدول مساعداتها إلى الدولة التي تصيبها الكارثة[1].
في الفلسفة السياسية قديماً كان الناس في حالة طبيعة متشتتة، لدرجة كان من غير الضروري قيام أي نمط من أنماط التعاون بينهم، لكن مع ازدياد الأعداد والكوارث والأخطار الطبيعية أفضى ذلك إلى وجود احتمالين، هما: الموت، أو التعاون، وهذا المضمون انعكس على السياسة الدولية كما يقول فرويد: (ما دامت هناك أمم وإمبراطوريات مهيأة كلها للقضاء على من ينافسها بكل قسوة، فلا بد أن تتهيأ كل منها للحرب).
لكن منطق المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية يفرض عدم انتظار سيارة الإسعاف Ambulance الدولية، ولا منظومة الطوارئ العالمية، وعلى الرغم من كل الجهود الحالية التي تبذلها الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية في زيادة الوعي، ونشر المواقف؛ لكن هذا لا يكفي في مواجهة هذا النمط المقلق جداً على الحياة البشرية، ولاسيما حين تحولت المسألة الوبائية إلى أداة سياسية في البورصات السياسية العالمية.
تؤكد المدرسة الفكرية في العلاقات الدولية هذا المضمون الذي ذكرته عندما يقول المفكر الأمريكي جون.جي. ميرشايمر John J. Mearsheimer: (لا توجد سلطة عليا تستطيع اللجوء إليها ان تعرضت للتهديد جدياً من قبل دولة أخرى، ففي عالم السياسة الدولية القاسي لا يوجد الرقم 911 للاتصال به إذا ما وجدت دولة ما نفسها في حال من المتاعب، حتى وإن كان الرقم موجوداً، فلا يوجد شخص في الطرف الآخر كي يرفع سماعة الهاتف)[2].
وهذه حالة حقيقية على مستوى السلوك الدولي، فهل انتظر الشعب الأمريكي الأمم المتحدة بعد أحداث 11 في 2011 لمجابهة هذا التحدي، وهل انتظر الشعب العراقي تقديم الدعم الدولي بعد دخول داعش إلى الموصل في حزيران 2014؛ وهكذا لن ينتظر العالم أن يتحرك الفاعلون في عصر العولمة ليقدموا صورة التعاون الحاسمة.
إن المشكلة الأساس هي الطبيعة البشرية، فلا تختصر المشكلة فقط بالنظام العالمي، إذ يقول نعوم تشومسكي Noam Chomsky: (لأول مرة في تأريخ الأنواع البشرية، طورنا بوضوح القدرة على تدمير أنفسنا، وما يزال هذا الكلام يجسد الحقيقة منذ عام 1945، وهناك العديد من العمليات طويلة الأمد على غرار عملية التدمير البيئي السائرة بالاتجاه نفسه)[3].
وفضلاً عن المتغيرات الكبيرة التي سيتركها الفيروس على أنماط القوة، والتي من المحتمل أن تحمل موازين جديدة الأبعاد، قد يولد نوع جديد من القوة، فقد تصبح معتمدة على (البقاء للأقوى في مواجهة الفيروس) بدلاً من معايير أخرى كشفت وهن النظام الصحي والإداري في العالم الغربي، لكن مع كل هذه المتغيرات هل ستختفي نظرية (الصراع) وهو الأساس في عالم العلاقات الدولية في ظل هذه الظروف؟
لا أتوقع ذلك في الأمد القريب، لكن المشكلة -بحسب تفسير النظرية البنيوية في العلاقات الدولية- هي مشكلة فرد ومجتمع ثم في إطار الدول، وعلى حد منطق الروائي الشهير جورج أوريل: (نحن بشر لنا أهميتنا، في حين أنهم مجرد لا بشر)، وفضلاً عن أن سجل البشرية لم يجعل من الأوبئة عناصر للتعاون وترك الصراع على الأقل بين القوى الكبرى.
إن التعاون يحتاج إلى مقدمات حقيقية ومؤثرة، فالنظام العالمي عاش احتضارات خطيرة في عصر الشعبوية، مرةً سجالات اقتصادية لحرب معلنة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ومرةً حراب مرعب على البعد النووي بين كوريا الشمالية وواشنطن، واتهامات أخرى لحرب سيبرانية بين موسكو وواشنطن، وكل هذا مع فقدان سيارة التجارة العالمية لإطاراتها من خلال الخطاب الشعبوي المعاد لما تبقى من العولمة.
إن ميزان الفيروس المؤثر في القوة العالمية قد ينقلها من الغرب إلى الشرق ولاسيما مع الظهور الأولي للصمود من قبل التنين الصيني، إذا ما أظهرت صموداً يواجه هذا الوحش الكاسر الذي حطم شاشة العولمة المسطحة وأفقد مشاهديها التفاعل مع هذا المسلسل الخطير، الذي يبدو أن حلقاته لن تنتهي قريباً، وقد تؤدي إلى عزلة اقتصادية تكون مقدمة لعزلة سياسية لمدة ليست بالقصيرة، وستؤثر على جذور الرأسمالية العالمية، وبعيداً عن فرح ماركس في قبره، ستكون الأزمة شاملة للجميع.
مع كل ما ذكرت من استحالة قيام دور فاعل دولي مشترك وثورة الانكفاء الداخلي التي سوف تعيشها الدول، مع طبوباوية الحب بين الدول، لكن ربما هناك من يعي أخذ زمام المبادرة لاستعادة البشرية عافيتها عبر الآتي:
- استمرار عمل المنظمات الدولية على توفير المعلومات في وقت مبكر؛ الأمر الذي سيمنح الحكومات الوقت المناسب لإعداد الموارد على الأقل وتوجيهها.
- تحييد الخلافات والصراعات الاقتصادية بين الأقطاب الكبرى؛ من أجل تحقيق صور من التعاون المشترك.
- تفعيل الدبلوماسية الإنسانية بما يخدم التعاون بين الدول والشعوب.
- تنسيق مجلس الأمن الخاص بقضايا الصحة لاتخاذ قرارات حاسمة وملزمة لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
- انتقال منظمة الصحة العالمية من دور المشرف في هذا النظام إلى العمل مباشرةً.
- تفعيل القنوات الخلفية الإنسانية للحوار بين مختلف الحكومات؛ لبحث إمكانية تحويل هذه الأزمة العالمية إلى فرصة ساندة للحوار.
- رفع الحصارات الاقتصادية والعقوبات عن الشعوب كافة في هذه المرحلة.
إن الأزمات الكبرى غالباً ما تفتح مساحة لإجراء إصلاحات جذرية في النظام العالمي، وثمة أطراف ترى ضرورة خروج عالم جديد متعدد الأقطاب ما بين عبارتين (دعونا وشأننا)، أو (هلموا إلينا).
واختتم بما كتبه جون ملتون (على الرغم من أن اللطف الإلهي قد وهبنا عفوه عن الأذى الآتي إلينا من خارج أنفسنا، ألّا أن فساد حماقتنا وضلالة نزاعه لدرجة أننا لا نستطيع إخماد قلوبنا عن قدح شرارات بؤس جديد لأنفسنا، ويستمر هذا إلا أن يتدارك الجميع في الجحيم مرة أخرى).
[1]– للمزيد عن مفهوم التعاون الدولي انظر: د. سعد حقي توفيق، العلاقات الدولية، دار ومكتبة عدنان، بغداد، 2017، ص: 594 وما بعدها.
[2]– للمزيد انظر: جون جي. ميرشايمر، لماذا يكذب القادة والزعماء: حقيقة الكذب في السياسة الدولية، ترجمة: عبد الفتاح عمورة، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2016، ص: 23.
[3]– نعوم تشومسكي، من يحكم العالم؟، ترجمة: د. فواز زعرور، دار الكتاب العربي، بيروت، 2017، ص: 167.