لماذا الأخلاق مهمة في السياسة؟
“هل تضطلع الأخلاق بدور في السياسة؟” هذا هو عنوان أحدث كتاب لجوزيف ناي وهو أحد المفكرين الأمريكيين المتخصصین في العلاقات الدولية. يتناول في هذا الكتاب دور الأخلاق في السياسة الخارجية للحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ روزفلت وصولاً إلى ترامب، حيث يعتقد أن الأمريكيين -ولاسيما من هم عاشوا في التأريخ المعاصر- وظفوا أدوات القضاء الأخلاقي بطرائق متباينة للمضي قدماً في سياساتهم الخارجية، وهذا بحد ذاته شكّل تحديات لهذا البلد على صعيد السياسة العالمية.
فبرأي “ناي” أن معايير استخدام هذه الأدوات لا تمتلك معياراً شفافاً؛ وبناءً عليه لا يمكن فصل الأخلاق عن السياسة الخارجية الأمريكية، لكن من أجل إصدار حكم صحيح، يتعين على الأمريكيين أن يتعلموا كيفية الاستفادة الصحيحة من المعايير الأخلاقية. فدونالد ترامب لم يكن مستثنى من هذا الأمر أيضاً، وسياسته المتمثلة في “أمريكا أولاً” تنبع من معيار أخلاقي جديد طرأ تغيير على شكله فقط.
ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها جوزيف ناي عن دور الأخلاق في السياسة الدولية، على الرغم من أن ناي معروف أكثر في بلادنا بنظرية “القوة الناعمة” و”القوة الذكية”، بيد أن انه تناول في مقال حمل عنوان “الأخلاق والسياسة الخارجية” المناهج المعيارية المختلفة على صعيد السياسة الخارجية، وقدم لأربعة مناهج هي:
المنهج المتشائم، المنهج الواقعي، المنهج الأخلاقي القائم على مركزية الدولة وفي النهاية المنهج الكوسموبوليتي [الكوني].
يعتقد المنهج الأول أن العلاقات الدولية لا يمكنها تُوقع أي شكل من أشكال الالتزام الأخلاقي أو النزعة الأخلاقية، ويتم التأكيد في المنهج الواقعي والأخلاقي القائم على مركزية الدولة على القيم النابعة من النظم، وفي نهاية المطاف يتم التركيز في المنهج الكوسموبوليتي [الكوني] على العدالة السلوكية. وقدم ناي أربعة مناظرات أيضاً عن دور الأخلاق في العلاقات الدولية، دارت المناظرة الأولى بين أخلاقية العلاقات الدولية وعدم أخلاقيتها، وكانت المناظرة الثانية بين الغائية والنفعية، وفي المناظرة الثالثة تتقابل سيطرة الدولة (الدولانية) ضد الفردانية (الفردية)، وفي النهاية تدور المناظرة الرابعة بين النسبية الأخلاقية في مواجهة العالم الأخلاقي الشمولي [الأخلاقية الشمولية].
لكن جوزيف ناي اختار في كتابه الجديد منهجاً جديداً، يتطرق في مقدمة الكتاب إلى النزعة الأخلاقية الأمريكية وجذورها التقليدية “ذات الخصوصية” الأمريكية والليبرالية الويلسونية [نسبة إلى الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين توماس ويلسون] والليبرالية الأممية بعد عام 1945. يستهل مقدمة كتابه طارحاً عدة تساؤلات عن كيفية قيام الزعماء بتقديم مصالح الناس وطرحها؟
ونحن نريد معرفة ماهية الأخلاق التي يطبقها رئيسنا في السياسة الخارجية وماذا يعني هذا الأمر؟ هل نحن مكلفون بالقيام بواجبات خارج حدودنا؟ في الواقع هل بإمكاننا بذل مساع لتحويل العالم إلى مكان أفضل؟
وبشأن ضرورة تناول بحث الأخلاق في السياسة الدولية يقول الكاتب:
“إن استدلالنا بأن الأخلاق لن تضطلع بدور في المناظرات والنقاشات المرتبطة بالسياسة الخارجية أمرٌ لا معنى له. فنحن نستفيد من الاستدلال والمنطق الأخلاقي في عملية إطلاق الأحكام على السياسة الخارجية، مع ذلك يتعين علينا أن نتعلم كيف ننجز هذا العمل على أفضل نحوٍ ممكن”.
فقد طرح في الجزء النظري منهجين رئيسين في سياق دور الأخلاق في العلاقات الدولية، ويقول في هذا الصدد؛ على الرغم من أن المؤرخين وضعوا مؤلفات كثيرة عن الخصوصية والنزعة الأخلاقية الأمريكية، فإن الدبلوماسيين الواقعيين الأمريكيين مثل “جورج أف كينان” (المنظر لعقيدة الاحتواء الأمريكية في مرحلة الحرب الباردة) حذروا مراراً من أوجه القصور في التقليد ذو النزعة الأخلاقية والقانونية لدى الأمريكيين.
فمن وجهة نظرهم للعلاقات الدولية ظروف تشيع الفوضى وتثير الاضطراب وليست هناك حكومة عالمية على الساحة الدولية لتتجشم عناء إحلال النظام والاستقرار في العالم. حيث يتعين على الحكومات توفير احتياجاتها الدفاعية بقدر كاف، وعندما تواجه تهديداً حينئذ تكون الغاية تبرر الوسيلة، وفي ظل ظروف يكون فيها الاختيار الدلالي غير متاحاً، فلا يمكن الحديث عن الأخلاق. بناءً على هذا الأساس فإن دمج الأخلاق مع السياسة الخارجية أمر خاطئ.
وبما يتعلق بمجال إطلاق الحكم على السياسة الخارجية لرئيس ما، ينبغي طرح هذا السؤال: إلى أي مدى كانت سياسته الخارجية فاعلة في اجتراح حلول للمشكلات؟ في هذا السياق يبدو التساؤل؛ هل كانت سياسته الخارجية أخلاقية أو لا، إلى حد بعيد لا معنى له.
يعتقد ناي أنه على الرغم من كل الميزات التي يمتلكها هذا المنهج، بيد أنه يضع الشكوك الجدية في دائرة الضوء. فعدم وجود حكومة عالمية لا يعني غياب النظام الدولي. حيث ترتبط بعض قضايا السياسة الخارجية ومواضيعها ببقاء الحكومات؛ وعليه فإن معظمها لا يرتبط بتاتاً مع بقاء الحكومات. على سبيل المثال، منذ الحرب العالمية الثانية شاركت أمريكا في حروب مختلفة، لم يكن أياً منها ضرورياً من أجل بقاء الولايات المتحدة الأمريكية.
من جهة أخرى لم يفض على الإطلاق الكثير من خيارات السياسة الخارجية الهامة المرتبطة بقضايا مثل حقوق الانسان، التغيرات المناخية أو حرية استخدام الانترنت إلى نشوب حرب. يقول ناي: إن معظم قضايا السياسة الخارجية تنطوي على معاملات ومقايضات بين القيم التي يتعين اختيارها ولا تحتاج إلى تطبيق صيغة قاسية تفتقد إمكانية الانعطاف لتحقيق مصالح الحكومات السياسية والاقتصادية.
يحاول ناي في مجمل كتابه طرح صورة لأداء كل رئيس جمهورية في سياق توظيف المعايير الأخلاقية وفي المحصلة مسار تأثير الأخلاق في السياسة الدولية، يقول من الناحية العملية في حياتنا اليومية يطلق معظم الناس أحكامهم الأخلاقية في ثلاثة أبعاد هي: النوايا، والأداة، والعواقب، فالنية ليست تحقيق الهدف فحسب بل تشمل نوايا القيم المعلنة والدوافع الشخصية.
الجانب الثاني أو البعد الهام لإطلاق الحكم الأخلاقي من وجهة نظر ناي يتمثل في الأدوات. فعندما نتحدث عن الأدوات، فإننا نتحدث حول تأثيرها في حال تحقيق الأهداف. بيد أن مسألة كون الأدوات أخلاقية فهذا الأمر مرتبط بتأثير أدائها؛ وبالتبعات الإيجابية والسلبية التي تحققها للأخرين. فعندما تُطرح مسألة الأداة يتبادر الموضوع الآتي: يتعين على الزعماء اتخاذ قرار حول كيفية استخدام القوة الصلبة والتهديد إلى جانب القوة الناعمة التي تشمل القيم، والثقافة، والسياسة؛ ليصنعوا قوة ذكية منها.
وإن النتائج والتبعات تحظى في فعالية الإجراءات بأهمية، وتنطوي على تحقيق أهداف البلاد. بيد أن تبعات اتخاذ أي إجراء من وجهة النظر الأخلاقية ليس مفيدة للأمريكيين فحسب بل لسائر الدول الأخرى أيضاً.
هناك نقطة أخرى مثيرة للانتباه تطرق إليها ناي وهي: هل يتعين علينا أن نطلق أحكاماً على رؤساء الجمهورية كمواطنين عاديين بناءً على معيار واحد؟ يجيب ناي على هذا السؤال في كتابه بإستفاضة، فهو يعتقد أنه “نادراً ما يتحلى الأمريكيين بالشفافية بما يتعلق بمسألة المعايير التي نحكم بموجبها على السياسة الخارجية”. ويرى أن الأمريكيين يمتدحون رئيساً مثل رونالد ريغان؛ بسبب الوضوح الأخلاقي في تصريحاته، إذ تكون النوايا الجيدة والبناءة التي تتبدى بنحو جيد وجميل كافية لإصدار أحكام أخلاقية.
لكن ويلسون وجورج دبليو بوش أظهرا أن النوايا الحسنة دون وجود أدوات كافية تحقق نتائجاً غير حميدة وغير مناسبة من وجهة النظر الأخلاقية، على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى أو هجوم حكومة بوش الابن على العراق.
يُخلص ناي إلى نتيجة مفادها أن الأمريكيين يطلقون أحكامهم على رئيس ما بناءً على حصيلة النتائج التي حققها.
يقدر بعض المراقبين ريتشارد نيكسون لإنهائه حرب فيتنام، في حين تسبب بمقتل (21) ألف أمريكي؛ بغية إيجاد توقف في مسار الحرب مع الفيتناميين، ليتضح فيما بعد أن هذا الأمر خلق توقفاً عابراً في مسار هزيمة القوات الأمريكية في فيتنام.
وعليه يتناول جوزيف ناي في كتابه دراسة دور الأخلاق في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ثلاثة رؤساء حكموا أمريكا باعتبارهم مؤسسي السياسة الخارجية لهذا البلد خلال مرحلة الحرب الباردة وهم: روزفلت، وترومان، وأيزنهاور، ويتطرق إلى الأداء الأخلاقي لثلاثة رؤساء أمريكيين خلال مرحلة حرب فيتنام هم: جون ف. كينيدي، وليندون جونسون، وريتشارد نيكسون.
يُخلص ناي إلى أن حذاقة جون كينيدي في حل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 مدعاة للتقدير وتمنحه درجات عالية بما يتعلق بالنزعة الأخلاقية في السياسة الخارجية. وعلى المنوال نفسه يسلط الضوء على دور الأخلاق في السياسة الدولية لجرالد فورد وجيمي كارتر ما بعد مرحلة حرب فيتنام ودور الأخلاق أواخر الحرب الباردة وفي أعقاب عهد رونالد ريغان وجورج بوش الأب، ومعايير توظيف الأخلاق في عهد بيل كلينتون وجورج بوش الابن.
وفي هذه المرحلة حدث الهجوم على العراق، يخوض ناي في دراسة أخلاقية السياسة الخارجية الأمريكية في هذه البرهة من الزمن. ويعتقد ناي بحسن نية بوش الابن، لكن بسبب افتقاده لأدوات مناسبة تسببت الإجراءات التي اتخذها بحدوث نتائج وخيمة من الناحية الأخلاقية.
تزامن حدوث تغييرات القوة في النظام الدولي مع بداية القرن الواحد والعشرين في عهد الرئيس باراك أوباما ودونالد ترامب، وجرى دراسة دور الأخلاق في السياسة الخارجية لكلا الرئيسيين أيضاً. وينتقد تصاعد مشاعر الخصوصية في أمريكا خلال عهد ترامب وسياسة “أمريكا أولاً” التي يدعمها من ناحية العواقب التي خلفتها على الآخرين، على الرغم من اعتقاده بوجود الظروف ذاتها في المراحل السابقة.
أظهر ناي خلال دراسته لدور الأخلاق في السياسة الخارجية لرؤساء أمريكا أنهم لم يكونوا مقيدين من قبل بنية النظام وفي الحقيقة كانوا يمتلكون حرية الاختيار إلى حدٍ ما. ويؤكد ناي على العطالة السياسية وانفعال رؤساء أمريكا بما يتعلق بالتطورات السياسية الدولية، ويطرح التبعات الإيجابية والسلبية.
وفي هذا المجال يشير إلى رغبة هاري ترومان في قبول الطريق المسدود والعقاب السياسي الداخلي في مسار الحرب الكورية عوض اتباع توصيات الجنرال دوغلاس ماكارثر لاستخدام الأسلحة النووية.
ويعتقد ناي أنه يتعين على الرؤساء الأمريكيين من أجل تطبيق سياسة ذات نزعة أخلاقية أن يأخذوا بالحسبان الفواتير على الصعيد السياسي وصعيد الوصول إلى الموارد والمصادر.
في الختام يُخلص ناي إلى نتيجة مفادها أنه في السياسة الخارجية ينبغي امتلاك نية حسنة عن طريق الاستفادة الناجعة من الأداة التي تحقق نتائج مفيدة للجميع. ويتسأل في هذا الشأن كيف بالإمكان إطلاق أحكام أفضل في ظل عالم مليء بالتهديدات الكبيرة مثل اندلاع حرب نووية والتغييرات المناخية.
ويعكف على بحث خيارات السياسة الخارجية الأمريكية في المستقبل أخاذاً بعين الاعتبار النتائج المتحصلة من دراسة أداء الرؤساء الأمريكيين السابقين.
وفي الختام يوصي بشأن مستقبل النظام الدولي بالتركيز ليس فقط على المنافسة الأمريكية مع الصين و روسيا فحسب بل على تهديدات من قبيل تجارة المخدرات غير المشروعة، الأمراض المعدية، الإرهاب وجرائم السايبري، التي يتعين أن تحظى باهتمام السياسة الدولية أيضاً.
المصدر: