أحمد الطبقجلي: زميل أقدم في «معهد الدراسات الإقليمية والدولية» في الجامعة الأمريكية في السليمانية بالعراق، وكبير مسؤولي الاستثمار في صندوق شركة Asia Frontier Capital.
تراجعت المطالب بطرد القوات الأمريكية في أعقاب مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني داخل الأراضي العراقية إلى حد كبير منذ النداءات الأولى المصرة على ذلك.
إن ما بدأ كأنه عرض مسرحي في مجلس النواب بالمطالبة بإنهاء الوجود الأمريكي انتهى بتحرك نحو إصدار البرلمان قراراً يطالب الحكومة بإلغاء طلب دعم التحالف العالمي الذي ابتدأ في عام 2014، والعمل على إنهاء وجود جميع القوات الأجنبية. وقد تغيّر ذلك القرار بظهور تقارير جديدة تفيد بأن رؤية الحكومة تتمثل بانسحاب القوات الأجنبية المقاتلة، ولا تشمل الرؤية عمليات التدريب والدعم اللوجستي للقوات العراقية. لا شك أن تهديدات العقوبات الأمريكية أدت دوراً في تهدئة أوهام القوة، ولاسيما من جانب أولئك الذين في محور المقاومة، والذين شاركوا في هذا التراجع.
إن اقتصاد العراق ليس عرضة للعقوبات الأمريكية فحسب، بل هو أيضاً معرض لفك الارتباط مع النظام المالي والاقتصادي العالمي القائم على الدولار الأمريكي. إذ بإمكان الولايات المتحدة أن تتسبب للعراق بأضرار أسوأ بكثير من العقوبات المفروضة على إيران دون الحاجة إلى تنفيذ العقوبات، فضلاً عن فرض عقوبات من شأنها “جعل العقوبات الإيرانية تبدو بسيطة إلى حد ما”. ظهر هذا الضعف من إخفاقات الإدارات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 في إعادة بناء البلد بعد عقود من الصراع، أو بإنشاء أسس لاقتصاد متنوع يقوده القطاع الخاص وليس الدولة. وبدلاً من ذلك، عملت الإدارات المتعاقبة على تعميق اعتماد البلاد على النفط، واتبعت سياسات عززت من انعدام التوازن الهيكلي بين نفقات الحكومة الحالية والاستثمارية، إذ استهلك القطاع العام حصة متزايدة من الإيرادات الحكومية. وإن الاعتماد الوحيد على النفط في هذه العائدات، وهيمنة القطاع العام مقابل القطاع الخاص المتعثر، هي أسباب رئيسة عرّضت البلاد للصدمات الخارجية.
ويعتمد نطاق الأضرار التي قد تلحق بالاقتصاد العراقي على ثلاث فئات للرد الأمريكي على عراق عدو، هي:
الأولى: فرض العقوبات الأمريكية الأساسية، والعقوبات الثانوية على الكيانات غير الأمريكية التي تقوم بمعاملات تجارية أو مالية مع العراق؛ وستكون آثار تلك العقوبات مشابهة لما عانت منه إيران؛ بسبب فرض عقوبات أمريكية مماثلة في عام 2018. بالنسبة لإيران، شمل ذلك تراجعاً كبيراً في صادرات النفط، وتراجع حاد جداً في الاقتصاد، وانخفاض كبير في قيمة العملة الإيرانية، وخفض مستويات المعيشة، وارتفاع نسبة البطالة ولاسيما بين الشباب.
إلا أن العواقب للعراق ستكون على نطاق أسوأ بكثير من تلك التي عانت منها إيران؛ أولاً: لأن صادرات النفط تشكل الجزء الأكبر من إيرادات الميزانية العراقية (حوالي 90% من ميزانية 2019) على عكس عائدات ميزانية إيران (حوالي 30% من ميزانيتها المالية 2019-2020). إن فقدان هذا الدخل للعراق سيحد بشدة من قدرة الحكومة على دفع الرواتب والأجور، والضمان الاجتماعي، وتقديم السلع والخدمات، فضلاً عن عدم وجود أموال كافية لإعادة إعمار البلاد، وتطوير قطاعها النفطي أو تطوير مجال توليد الطاقة.
ثانياً: يعتمد العراق تقريباً بالكامل في توفير السلع والخدمات على الواردات من الخارج، على عكس إيران التي تتمتع باقتصاد متنوع جداً، وقطاعات صناعية وزراعية ومالية أكثر تطوراً، فلا يمكن للقطاعات الصناعية والزراعية الصغيرة في العراق أن تلبي احتياجات نسبة صغيرة من الطلب المحلي، وإن قطاعها المالي غير المتطور لا يمكنه توفير التمويل لتطوير هذين القطاعين.
ثالثاً: يعتمد اقتصاد العراق -الذي يعتمد على النقد- على توافر العملة الأمريكية (الدولار) كي يواصل عمله. وإن وجود خلل في معروض الدولار الأمريكي سيرفع من سعر الدولار الأمريكي مقابل الدولار العراقي؛ وبذلك سترتفع قيمة البضائع المستوردة. في عام 2015، شعرت البلاد ببعض هذه الآثار بسبب قيود في معروض الدولار الأمريكي من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نتيجة لمخاوف وزارة الخزانة الأمريكية من أن الكيانات الخاضعة للعقوبات (إيران وداعش) قد حصلت على تلك الأموال. إذن إن أي تراجع في معروض الدولار الأمريكي في العراق سيكون له آثار أسوأ بكثير مما كانت عليه الأوضاع في عام 2015. ومما يزيد الطين بلة، أن العراق لا يستطيع الوصول إلى الدولار الأمريكي عبر دولة ثالثة، على عكس إيران، التي يتم تلبية حاجتها إلى العملة الأمريكية عبر العراق.
أما الفئة الثانية من ردة فعل الولايات المتحدة فتتمثل في إنهاء الاستثناءات الممنوحة في شراء الغاز الإيراني، الذي يعد ملاذاً للعراق. إذ إن الاستمرار في شراء الغاز الإيراني سيعرض العراق لعواقب العقوبات الأمريكية الثانوية، التي ستكون أقل إيلاماً بنحوٍ هيّن مقارنة بأي احتمالية في فرض عقوبات كاملة (التي ذكرت سابقاً). في حين أن التوقف التام عن شراء الغاز الإيراني، سيؤدي بفقدان العراق لنحو ثلث إمدادات الطاقة المحلية في العراق؛ الأمر الذي سيغضب السكان الذين يشعرون بالغضب بالفعل؛ بسبب الإمداد غير الكافي للطاقة. الفكرة التي لم تناقش بنحو كافٍ هي أن هذه الاستثناءات مُنحت بشرط أن يضع العراق خطة ذات مصداقية بتقليل اعتماده على الغاز الإيراني، وإنهاء الواردات على مدى البعيد. ما يزال بإمكان الولايات المتحدة منح تلك الاستثناءات، ولكن بفرض شروط أكثر صرامة على الخطط لتقليل الاعتماد على إيران وفرض نظام مراقبة أكثر صرامة في حال فشل العراق في إحراز تقدم الذي سيؤدي بالتالي إلى فرض العقوبات.
الفئة الثالثة: هي من المرجح أن تكون هي ردة فعل الولايات المتحدة، فهي إنهاء عدّ العراق حليفاً وثيق لها تدريجياً؛ وبالتالي إخضاعها لمزيد من التدقيق في الخزانة الأمريكية لنظامها المالي؛ مما سيؤثر سلباً على عمل البنك المركزي العراقي والنظام المصرفي. والنتيجة الأكثر وضوحاً هي تعطيل الاقتصاد العراقي الذي يتسم بوفرة الأموال النقدية، والذي يعتمد على وجود الدولار الأمريكي لإجراء المعاملات التجارية والمالية (كما ذكر سابقاً في المقال).
في رواية ليونارد فبرالي الساخرة عن الحرب الباردة (الفأر الذي زأر) ‘The Mouse That Roared’، أعلن دوق “مملكة غراند بنفيك” (وهو شخصية خيالية) الحرب على الولايات المتحدة، الذي وبمحض الصدفة وجدوا أنفسهم منتصرين بشكل أو بآخر. ولكن لا يبدو أن بإمكان العراق توقع أي نصر بوجود صراع أو علاقة متوترة مع الولايات المتحدة.
المصدر:
https://blogs.lse.ac.uk/mec/2020/01/27/us-sanctions-and-the-illusion-of-power/