عياد البطنيجي: باحث وكاتب من فلسطين.
يتصاعد في هذه الغضون التوتر والحرب الكلامية بين السعودية وإيران، وآخر تطورات التصعيد جاءت حينما حمَّل وزير الدولة السعودية للشؤون الخارجية عادل الجبير إيران مسؤولية الهجوم على منشآت أرامكو. وتزامنت مع هذا التصعيد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن تراجع أهمية الشرق الأوسط بعدما صارت بلاده المصدر الأول للطاقة في العالم، وأن هناك عدداً قليلاً جداً من ناقلات النفط التي لا تحتاج إلى حراسة في مضيق هرمز من أجل دول غنية من دون مقابل، وأضاف أن الصين تستورد 65% من النفط من هناك، واليابان 25%.
تشعر السعودية بأن الولايات المتحدة -منذ إبرام الاتفاق النووي الإيراني- لم تأخذ مخاوفها بالحسبان، ولم تخفِ شعورها بالخذلان من سياسات الإدارة الأمريكية، فتشكلت لديها قناعة بأن الولايات المتحدة عازمة على تثبيت إيران كقطب مهيمن في الشرق الأوسط لتعزيز موقعها ونفوذها. وترى السعودية أن إيران قد سيطرت على أربع عواصم عربية وهي تحت العقوبات الأمريكية. وكان واضحاً بالنسبة لها دلالة ما تفعله إيران في أن هذه الحرية والقدرة على الفعل وامتلاك كل هذا النفوذ في المنطقة لم ينفك عن مساعدة الولايات المتحدة. وباتت السعودية ترى أن العلاقة بين طهران وواشنطن قائمة على التخادم والمصالح المتبادلة. فالاستراتيجية الأمريكية في الشرق الوسط تخدم الاستراتيجية الإيرانية وإن هذه تخدم بدورها الاستراتيجية الأمريكية؛ ومن هنا بدأت السعودية تشعر بالورطة من رهن سياساتها بالإدارة الأمريكية، لكن ليس هذا هو كل القصة التي ما تزال الولايات المتحدة قادرة على رسم حبكتها.
إن تزامن تصاعد التوتر في المنطقة وتصريحات ترامب لا يتعيّن مضمونه في ظاهرية الكلام المرسل عن تراجع أهمية الشرق الأوسط، وإنما عمّا يتكشف لنا عن نوايا الولايات المتحدة في إدخال الحرب كعنصر في استراتيجيتها الجديدة، وكفن من فنون الحكم السياسي لضبط منافس مكافئ أو شبه مكافئ. إن حضور الصين واليابان في كلام ترامب يعني إيجاد علاقة معينة بين إقليمي الشرق الأوسط وشمال شرق آسيا، ويكشف عن توجه جديد في التصور الأمريكي لكبح الصعود الصيني.
ما تريده الولايات المتحدة من هذه العلاقة هو توريط الصين في سياسة القوة في الشرق الأوسط وتحويل المنطقة إلى منطقة ارتطام بين المحاور. إذ تسعى الولايات المتحدة إلى إطلاق صراع واسع النطاق بين القوى في الخليج وتوريط خصم مكافئ أو شبه مكافئ كالصين، وضبط تطلعات القوة الإيرانية لضمان استمرارية عملها ضمن الاستراتيجية الأمريكية، وبالطبع إن كل هذا سيزيد من شهية القوى الأخرى المنافسة لها (السعودية) إلى امتلاك القوة، وهو ما يوسع فرص إبرام صفقات جديدة للولايات المتحدة.
لا نفهم تصريح ترامب المذكور آنفاً إلا بأنه يأتي كي يمنح رخصة للدولة القادرة على فرض الهيمنة على المنطقة كي توسع نطاق نفوذها؛ ولسان حاله؛ لأن أمريكا باتت أقل حزماً في الشرق الأوسط فلم تعد تحمي أحداً، وأن المنطقة لم تعد تهمها كثيراً. فيترتب على ذلك دفع المنطقة إلى مأزق أمني -ولاسيما لدى الدول التي تعتمد على الحماية الأمريكية- الهدف منه إشعال التنافسات الأمنية فيها. وإن ما تريده الولايات المتحدة هو بالضبط إدخال المنطقة في توترات متدحرجة قد تفضي إلى حروب بينية تحوِّل من خلالها ثروات المنطقة من الدول المتنافسة إلى الولايات المتحدة.
وهي بذلك تعطي إشارة للصين أن ثمة مخاطر استراتيجية كبرى تنتظرها في المنطقة الأمر الذي يثير قلقها بشأن تراكم ثرواتها التي تعتمد بشكل كبير على طاقة الشرق الأوسط. من المعروف أن الصين تواجه نقاط ضعف بدرجة كبيرة من امدادات النفط التي منها تستورد 60% وأن احتياطها الاستراتيجي لا يغطي غير أيام معدودة. يسعى ترامب إلى دفع الصين للانغماس في سياسات أكثر جدية في الشرق الأوسط أملاً في إبطاء النمو الاقتصادي للصين.
تقصد الولايات المتحدة من إخراج الصين من شمال شرق آسيا حيث مجالها الحيوي فلطالما سعت إلى إبقائها هناك، إلى الانغماس أكثر في سياسات الشرق الأوسط. فعلياً تواجه الولايات المتحدة معضلة في كبح الصعود الصيني، فهناك تخوف أمريكي من الصين حيث تشير تقديرات إلى احتمال تفوق الاقتصاد الصيني على الاقتصاد الأمريكي، وهي لذلك تسعى باستمرار إلى تحسين امتيازاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
والأهم هو أن المخططين الاستراتيجيين يشككون في جدوى المخططات الاستراتيجية المتبعة لكبح الصين، ويحاججون بمحدودية فعاليتها لهذا الغرض. وإن تشكيل نواة لتحالف توازني في شمال شرق آسيا مضاد للصين، أو فرضية نهوض الصين السلمي، أو الحرب المباشرة ضد الصين، أو الإرغام دون حرب، هي استراتيجيات لطالما اتبعتها الولايات المتحدة لتحجيم شهية الصين للقوة. غير أن ثمة قناعة متزايدة في طريقها إلى التجذير داخل الإدارة الامريكية ترى أنه لم تعد هذه الطرق مضمونة اليوم من شأنها أن تكبح الصعود الصيني. معتبرةً أن القوة (ولا تعني القوة بالضرورة الحرب المباشرة مع الصين) هي الأداة الوحيدة لحل مشكلة الصعود الصيني. إن عزل ترامب مستشاره للأمن القومي، جون بولتون “صقر الحرب”أمر لا يدفع بالضرورة إلى الأمل في أن ترامب يريد مستقبلاً تفادي مواجهات عسكرية، لكن أي ضمانة لهذا الأمر غير متوافرة. ولاسيما أنه بالفعل لن تكبح تلك الطرق المتبعة شهية الصين للقوة وتعاظم نفوذها مستقبلاً. لأنه ببساطة ما أن تمتلك الصين أصول القوة الاستراتيجية فإنها ستكون قادرة على تحطيم تلك الأساليب وما من شيء سيحول دون ذلك.
إن مشكلة الصعود الصيني للمخططين الأمريكان تكمن في حقيقة أن الصين قادرة فعلياً على تحقيق تراكم الثروة. وإن مساعي الصين إلى امتلاك القوة الاقتصادية عبر التكامل بالاقتصاد العالمي، وابتعادها عن الانغماس في السياسة العالمية يمنحها امتيازات؛ لتحقيق بناء الثروات التي ستستخدمها لاحقاً في بناء جيش قوي وتكنولوجيا عسكرية قد يهددان انفراد الولايات المتحدة بالسيادة العالمية ومن ثم إخراجها من شمال شرق آسيا ومن غرب المحيط الهادي.
تكمن مشكلة الولايات المتحدة إزاء كبح الصعود الصيني في كيفية عرقلة تراكم الثروة، وإن أنجع وسيلة؛ لتحقيق ذلك هي الحرب بعدما اكتشفت الولايات المتحدة محدودية اللجوء لاستعمال الاقتصاد العالمي في عرقلة الصعود الصيني، وأن هذا الاستعمال بحاجة إلى استكمال بوسائل أخرى من شأنها أن تزيد من فعالية عرقلة الصعود الصيني. فمن خلال إدخالها في حروب بينية في شمال شرق آسيا أو عبر توريطها في سياسات الشرق الأوسط من شأنه أن يرفع من تكاليف الصين الاقتصادية التي ستنفقها على مشاريع سياسية من أجل حماية أصولها الاقتصادية، قد يشكل عبئاً عليها وهي ما تزال منهمكة في عملية بناء الثروة.
لن تخوض الولايات المتحدة حروباً مباشرة ضد الصين فمن غير المرجح إطلاق تعارك صيني أمريكي مباشر، والأرجح تورُّط دول أخرى في هذا الصراع مع الصين ولاسيما حلفاء الولايات المتحدة، وإطلاق حروب بينيه مع دول شمال شرق آسيا. فالولايات المتحدة من خلال هذه الحروب ستتمكن من تحويل الثروة من الدول المتحاربة إلى واشنطن ومن تعبئة الفراغ الاقتصادي الناجم عن انخراط الصين في معاركها كي تملأه الولايات المتحدة في آسيا الوسطى على سبيل المثال؛ لتستطيع بذلك أن تبطش باقتصاد الصين، وتعيق تنميته التي اكتسبتها الصين، وتسبّب اختلالاً ومشقة على نطاق واسع وتلحق خسائر ضخمة في عملية بناء الثروة الصينية. وذلك عبر تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة ارتطام، فضلاً عن تحويل منطقة شمال شرق آسيا في المدى القصير إلى منطقة ارتطام أخرى عبر اشعال حروب بينية.
كيف يمكن للولايات المتحدة توريط الصين في حروب بينية؟
ليس بالأمر الهيّن إقناع الولايات المتحدة لدول شمال شرق آسيا بالدخول في حرب مباشرة مع الصين، فهو خيار مستبعد. وفي المقابل تستطيع الولايات المتحدة أن تدفعها مُكره؛ والأرجح أنه ليس هناك من خيار؛ لتحقيق هذا الإكراه إلا عبر تحريك القواعد العسكرية الأمريكية القابعة في المنطقة القصد من هذه المناورة الاستراتيجية أن تغيّر من أبنية القوة بطرق تجعل النزاع أرجح منه اليوم. وإن من يدرك حساسية علاقات القوة في هذه الأقاليم يدرك تماماً معنى هذه الخطوة وآثارها الكبيرة؛ وهو ما يدفع القوى هناك إلى إطلاق صراع ضارٍ على امتلاك القوة لتعويض ما يبدو أنه انسحاب أمريكي؛ لخلق توازن مع الصين، فجميع القوى المحيطة بالصين لديها تخوفات من هذا الصعود.
تهدف هذه الخطوة لنقل المسؤولية إلى القوى المحلية لتأخذ زمام المبادرة، والتدخل الأمريكي عند اللحظات الضرورية؛ وبذلك تعرقل إمكانية صعود مهيمن إقليمي يهدد الهيمنة الأمريكية. وفي حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة لا تريد أن تترك للقوى الإقليمية مهمة المحافظة على توازن القوة في الجوار الإقليمي بقدر ما أنها تسعى إلى أكثر من ذلك، وعنينا بذلك أنها تتقصد تهييج المنافسات الأمنية، واستنزاف القوى الصاعدة اقتصادياً في سياسة القوة بغرض تأخير صعودها وعرقلته.
لا تريد الولايات المتحدة تثبيت إيران قطباً إقليماً مهيمناً فحسب، بل التحكم في إمكانيات قوتها في الشرق الأوسط واستثمارها في تحفيز الدول، ولاسيما السعودية، من أخذ زمام المبادرة. إن تحريك القواعد الأمريكية في شمال شرق آسيا سواء بسحبها أو تخفيفها إلى حدود دنيا والبقاء بعيداً إلى المجال الخارجي قدر المستطاع يُدخل المنطقة في عملية تغيّر واسع في سياسات القوة. ولأن الولايات المتحدة قوة بحرية عظمى فقد تنسحب من البر وتأسيس قوة هجومية بحرية على المناطق الجغرافية السياسية في الخليج العربي وشمال شرق آسيا؛ وبالتالي تحافظ على أصول بحرية جوهرية متواضعة وفعالة تمتلك القدرة على إطلاق عمليات تدخلية عند الضرورة. ولو أضفنا إلى كل ذلك انخراط الروس بالكامل في الصراع السوري، من هذه الحيثية ندرك كيف أن الحرب تدخل في فنون الحكم وكعنصر في استراتيجيتها السياسية؛ وذلك لبناء سياق استراتيجي يهدف إلى إضعاف خصومها المحتملين والتحكم في مسارات تطور نفوذهم الإقليمي، وضمان ألا تملك أي من هذه القوى موارد تأهلها لتكون طرفاً مناوئاً، ومن هنا تصور أمريكا لشرق أوسط أقل حزماً ونقل المبادرة إلى القوى الإقليمية.
وهو ما يعطي إحساساً لهذه الدول بضرورة أخذ زمام المبادرة، ودفع القوى الإقليمية للاستثمار أكثر في مصالحها السياسية كي تؤمن بناء ثرواتها بدلاً من الوضع السابق، وبذلك فإن الولايات المتحدة تسعى إلى قلب أولويات هذه الدول لتمسي أولوية بناء سياسة القوة على مراكمة الثروة. إن قلبها لهذه الاستراتيجية أي جعل أولوية بناء سياسة القوة على بناء الثروة يستزف القدرة الاقتصادية عبر زيادة إنفاقها الدفاعي، فيؤخر أو يضعف التحوّل إلى قطب مهيمن قد يهدد السيادة العالمية للولايات المتحدة. ويعني بالضبط إدخال هذه المنطقة في تصعيد غير مسبوق لها آثار سلبية على اقتصاديات المنطقة وإيجابية على اقتصاديات الولايات المتحدة. فقد تتصرّف الدول الإقليمية بطريقة تُشعل النزاعات؛ وبالتالي إدخالها في أتون حرب بينية تُنقل من خلالها ثروات الدول المتحاربة إلى الولايات المتحدة.
ختاماً، يبدو هذا هو السيناريو المحتمل لتوجه صراعات المنطقة مستقبلاً، وهو ما تهدف إليه الولايات المتحدة في خططها المطلوبة من وراء إيجاد رابطة بين الشرق الأوسط وشمال شرق آسيا. وإن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تكمن في استخدام الحرب في استراتيجيتها السياسية، واستعمال القوى الإقليمية المفضّلة لكبح صعود قوة يحتمل أن تكون معادية، وتضمن الحيلولة دون بروز مهيمنين إقليميين خطرين، والتحكم في بناء ثروات القوى الإقليمية عبر تحويل الثروات من الدول المتحاربة إلى الولايات المتحدة.