طالب جبار حسن، طالب دكتوراه – كلية العلوم السياسية – جامعة بغداد
زينب گاطع ناهض، ماجستير في العلوم السياسية – جامعة بغداد
تعدّ جزيرة غرينلاند من أكبر الجزر في العالم، إذ تحتل المرتبة الثانية من حيث المساحة بعد أستراليا، وهي إقليم دنماركي مستقل ضمن مملكة الدنمارك، وتقع جغرافياً في القطب الشمالي، وتحديداً في الجهة الشمالية من المحيط الأطلسي، وترتبط الجزيرة جغرافيا بالقارة الأمريكية الشمالية، وترتبط تأريخياً وسياسياً بالقارة الأوروبية ولاسيما مع النرويج، وآيسلندا، والدنمارك.
عاصمة غرينلاند هي مدينة نوك، وهي أكبر مدينة في الجزيرة التي تعدُّ الأقل من حيث السكان إذ يقطنها حوالي 56 ألف نسمة.
ونظراً لأهمية الجزيرة فقد أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً رغبته واستعداده لشرائها، وقد أثار هذا العرض ضجة واسعة حول العالم؛ الأمر الذي رفضته الدنمارك بشدة؛ وصرح سياسيون دنماركيون بأن الجزيرة ليست للبيع، وعدّ بعض الساسة فكرة ترامب “سخيفة جداً”، ووصفه (مورتن أوسترغورد) زعيم المجموعة البرلمانية للحزب الليبرالي الاجتماعي الدنماركي بأنه “عقلية فظة وتاجر ظن أن كل شي قابل للبيع”؛ ونتيجة هذه التصريحات ألغى ترامب زيارته المقررة إلى الدنمارك، التي كان من المقرر أن تتم ما بين الثاني والثالث من شهر أيلول المقبل؛ مما أثار حفيظة الساسة الدنماركيين بنحو أكبر، وتسبب بتأزيم علاقة بلاده بحليف جديد من الناتو؛ لذلك فإن فكرة ترامب لم تلق القبول ولم يكن تحقيقها بالسهولة التي ابتاعت بها الولايات المتحدة الأسكا من روسيا عام 1867.
وجدير بالذكر أن فكرة شراء جزيرة غرينلاند من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ليست بالجديدة، فقد تم طرح فكرة شراء الجزيرة لأول مرة في ستينيات القرن التاسع عشر في عهد أندرو جونسون، وقد أشار تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية -يرجع تأريخه لعام 1867- إلى الأهمية الاستيراتيجية للجزيرة، وإلى ثرواتها الغنية والواعدة، ووصف فكرة الحصول عليها بالمثالية، ولم يحدث تحرك رسمي على شراء الجزيرة حتى عام 1946 حين عرض هاري ترومان على الدنمارك 100 مليون دولار مقابل الجزيرة، فضلاً عن عرض سابق بمقايضة أراض في الأسكا مع مناطق استيراتيجية في غرينلاند.
ولكن يبقى السؤال الأهم هو: ما سبب إصرار ترامب على امتلاك الجزيرة في هذا الوقت على وجه الخصوص؟
ولا يخفى أنه إبان الأعوام القليلة الماضية حدث تنافس قوي بين روسيا، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية بشان المنطقة القطبية، إذ كان من نتيجة التغيّرات المناخية وذوبان جليد المنطقة القطبية اكتشاف ثروات هائلة في قاع المحيط، وبات من الممكن الوصول إليها مع استمرار ذوبان الجليد؛ مما جعل المنطقة مسرحاً للمنافسة العالمية، واحتمال الصراع بين الدول الكبرى على الموارد الطبيعية، وحركة المرور، ويلاحظ أن كفة روسيا هي الأرجح في القطب الشمالي؛ نظراً لامتلاكها الحصة الأكبر من موارد الطاقة في المنطقة، إذ اكتشفت روسيا ما لا يقل عن 43 حقلاً للنفط والغاز في القطب الشمالي حتى نهاية عام 2013، مقابل 11 حقلاً لأمريكا، وفضلاً عن ذلك تمتلك روسيا أكبر أسطول لاختراق الجليد في العالم يتكون من 40 كاسحة جليد، وهي تسعى إلى إنشاء كاسحات جليد جديدة تعمل على الطاقة النووية؛ وقد صرح نائب رئيس الوزراء الروسي (ديمتري روغزوين) بأن روسيا تجهز ثلاث كاسحات جليد نووية للعمل بداية من عام 2020.
إن لدى روسيا أيضاً خططاً لإنشاء سفن حربية تعمل في هذه الأجواء الجليدية يمكنها حمل صواريخ مجنحة، بينما ليس لدى أمريكا في المنطقة سوى كاسحة جليد واحدة قديمة وثقيلة تبلغ من العمر 42 عاماً، وهي ليست بحالة جيدة، وتسعى الآن إلى تطوير كاسحة جليد جديدة في أقرب وقت، وتخطط أيضاً لبناء كاسحتين أخريين، وقال مستشار رئيس الولايات المتحدة لشؤون الأمن القومي (جون بولتون) السابق متحدثاً عن كاسحة الجليد الجديدة إنه “ينبغي استعادة هيمنة الولايات المتحدة في القطب الشمالي؛ للتقليل من سيادة روسيا والصين في المنطقة”.
وهذا يدلّ على أن موقف الولايات المتحدة في القطب يمتاز بالضعف أمام روسيا؛ الأمر الذي أكده قائد خفر السواحل الأميرال (بول زاكنفت) “نحن منزعجون منذ زمن بعيد؛ لأن البلاد لا تمتلك الموارد الكافية لدعم وجودنا في القطب الشمالي”.
من هنا كان على الولايات المتحدة أن تبحث عن حلٍّ لإعادة توازن قوتها في هذه المنطقة؛ فكانت الفكرة هي شراء جزيرة غرينلاند؛ فهذه الجزيرة التي يذوب فيها الجليد بنحو كبير، فعلى وفق ما خلص إليه مؤخراً تقييم التغيّر المناخي في القطب الشمالي فإن الاحترار المحلي فوق غرينلاند يمكن أن يتجاوز متوسط الاحترار العالمي بثلاث مرات، ومنحت غرينلاند عام 2010 أولى تراخيص للشركات النفطية للتنقيب عن الغاز والنفط وفتح سواحلها المطلة على القطب الشمالي لعمليات إنتاج النفط واستخراجه؛ إذ من المؤكد أن فكرة شراء الجزيرة هي محاولة لتعزيز وجود أمريكا في المنطقة قبال روسيا؛ وبالتالي إضعاف دور الصين التي تشهد حرباً تجارية واقتصادية مع الولايات المتحدة ولاسيما في سنوات ترامب الأخيرة، إذ استثمرت الصين في التعدين في غرينلاند على الرغم من رفض الولايات المتحدة أن يكون أي حقوق لبكين في القطب الشمالي، ويرى الأمريكيون أن التمدد الروسي-الصيني نحو المنطقة القطبية بات خطراً مباشراً.
فإذا نجحت الولايات المتحدة من شراء الجزيرة فسيكون رداً على الروس لإظهار قدراتهم العسكرية باستفزازات في أجواء الشمال، وسوف تتغلب على الصين المنافس الاقتصادي الأبرز لها حالياً؛ وبالتالي فإن امتلاك أمريكا لهذه الجزيرة سيعني تغييراً شاملاً في موازين القوى وقواعد اللعبة، فالأمر خاص بتصارع يتخطى ما كان عليه في الحرب الباردة إلى مسألة نفوذ ومصالح يتشابك فيها التمدد والهيمنة العسكرية مع التجارية، والبحث عن موارد طبيعية؛ لاستغلالها بين الدول المتنافسة.
المصادر
1-ايرل ن- ميتلمان، موجز جغرافية أمريكا، مكتبة الإسكندرية، مصر، ٢٠٠٠.
2-أسماء بن مشيرح، القطب الشمالي في الاستراتيجية الروسية: فضاء جديد لمواجهة الأطلسية، مجلة قضايا آسيوية، العدد الأول، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا، ٢٠١٩.
3-اوغستين كوليت، دراسات حالات عن تغيير المناخ والتراث العالمي، منشورات مركز اليونسيكو، منظمة الأمم المتحدة، 2013، ص: ٢٣.
4-ناجي بوزيان، استراتيجية الدفاع عن القطب الشمالي، مجلة الدفاع الوطني اللبناني، العدد (98)، 2016، على الموقع الإلكترونيhttps://www.lebarmy.gov.ib..
5-ناصر السهلي، غرينلاند تعيد تهافت القوى العظمى على المنطقة القطبية الشمالية، على الموقع الإلكتروني:https://www.alaraby.co.uk في 21 آب 2019.
6-شراء غرينلاند: ترامب ينتقد رد الدنمارك البغيض بعد إلغاء زيارته، على الموقع الإلكتروني: www.bbc.com في 21 آب ٢٠١٩.